ذبَحَت «داعش» واحداً وعشرين مصرياً قبطياً كالكِباش. قبلها أُلبِسُوا زياً برتقالياً وسُيِّروا على ساحل البحر الليبي. أُجبِروا على الجثو على الأرض ثم كُبُّوا على وجوههم. وتلا رجل في الخلف: الحمد لله القوي المتين والصلاة والسلام على من بُعِث بالسيف رحمة للعالمين». لينتهي كل شيء، وتغدو الإنسانية أمام اختبار صعب أمام هذه الزمرة.
الحقيقة، أن الحديث عن هذه الجريمة ليس بأهمية أن نُنصِف الأقباط كتاريخ وحضور في هذه المنطقة وهم في محنتهم. فالبعض لازال (كما «داعش») يعتقد أن الأقباط ما هم إلاَّ وزنٌ زائدٌ على جسد المنطقة، فلا يعترف حتى بوجودهم، في حين أنهم من ترابها، ونسبهم ضارب في التاريخ ما بين انتساب إلى حام بن نوح أو نصر بن حام أو مصرايم وكوش وكنعان وقوط، أو من ولد كنعان بن حام، وهو أمر دوَّنته كتب التاريخ الإسلامي.
كما أنهم كانوا ملوكاً في هذه المنطقة. فمما جاء عن ابن خلدون بشأن الأقباط أن «هذه الأمة أقدم أمم العالم وأطولهم أمداً في الملك واختصوا بملك مصر وما إليها ملوكها من لدن الخليقة». كما ورد أن مُلكَهم كان يشمل «ما بين أسوان واليمن والعريش وإيلية وفرسيسة فسميت كلها أرض مصر»، وفى «قبليها النوبة وفي شرقيها الشام وفى شمالها بحر الزقاق وفى غربها برقة والنيل من دونها وطال عمر مصر». هكذا وَرَد.
وحتى عندما جاء الإسلام، فإن الدول الناهضة في تلك اللحظة كان يتأمَّر عليها النصارى والأقباط، فكان هرقل ملك الروم، والنجاشي ملك الحبشة، والمقوقس عظيم أقباط مصر. بل إن التاريخ يحدثنا أن الإسلام دخل أرض الكنانة متدرجاً، فلم ينتشر «في قرى مصر إلاّ بعد المئة من تاريخ الهجرة، فلما كان في المئة الثانية من سنين الهجرة، كثر انتشار المسلمين بقرى مصر ونواحيها» كما يذكر المقريزي في المواعظ.
ما يُحزِن أن الأقباط المذبوحين في الأرض الليبية قبل أيام يُذبحَون وكأنهم غرباء في حين أن الحقيقة تشير بأنهم كانوا بجوار أرضهم! ألَمْ يأتِ في كتاب «الاستبصار في عجائب الأمصار» أن مدينة أجدابية الليبية هي «مدينة كبيرة في صحراء صفا، وآبارها منقورة في ذلك الصفا، طيبة الهواء والماء، وبها عين ثائرة عذبة، ولها بساتين ونخل يسير»، إلى أن يقول «وأهلها ذو يسار وأكثرهم أقباط»! هذه هي الحقيقة التي يجهلها أولئك الأوباش.
أضِف إلى ذلك، فقد كان المسيحيون والأقباط أصحاب صناعة وحرفة في هذه المنطقة من قديم العصور. وقد أورد المؤرخون حول صناعة النسيج والحياكة «فكان عرب البادية يجهلونها وإنما شاعت بين عرب الحضر وأكثر ما نرى شيوعها بين نصارى العرب في جهات اليمن والبحرين والشام وفي بلاد قضاعة، وكانوا يبيعون بعضها من أقباط مصر» كما يشير لويس شيخو.
ثم يشير إلى حاجة العرب إليهم لخبراتهم الصناعية بالقول: «وكان العرب يلتجئون إلى أهل الأرياف من الشام واليمن والعراق فيتخذون من نجاريهم العمد والأوتاد لخيامهم والحدوج لظعائنهم والرماح والقسي والسهام لسلاحهم». ويضيف «وقد بقي من أعمال النصارى الدالة على براعتهم في هذه الحرفة عدة آثار تُرى في كنائس وأديرة أقباط الصعيد وطور سيناء والجزيرة، ومنها ما تحوّل إلى جوامع ومنها المقاصير القديمة والشعاري والمشارب كان النصارى يهندسونها قديماً وصبر بعضها على آفات الدهر».
نعم، لقد كان الأقباط أهل حرفة، طوَّروا خلالها التجارة والصناعة في المنطقة وفي مصر بالتحديد منذ أمد. وقد ذكر جمال الدين القفطي في أنباه الرواة في ترجمته لـ أسعد بن مهذّب بن زكريا بن ممّاتى أبو المكارم وهو الكاتب القبطي المصري المعروف أن جده «كان جوهرياً بمصر، وكان يصبغ البلّور صبغة الياقوت؛ فلا يعرفه إلاّ الخبير بالجواهر»، ثم يختم «أنّ الفصّ من عمل ممّاتى كان إذا نودي عليه في سوق الصاغة تشوّفت نحوه العيون أكثر من تشوّفها إلى غيره من الجواهر لجودته، وحسن منظره».
وخلال السنوات التي سبقت الحملة الفرنسية، كانت مصر قامةً في الوحدة بين أبنائها. وكانت أرضاً جاذبةً لا طاردة. وقد ذكر السيد مرسي أبو ذكري في المقال وتطوره في الأدب المعاصر بأنه «لم تكن بين المسلمين والأقباط تلك الروح الشريرة، ولو كانت في فطرة المسلمين أو فطرة الفريقين لتلاشت الأكثرية الأقلية في عصور مضت».
ثم يتحدث عن تقلّد الأقباط والمسيحيين لوظائف بالدولة في تلك الحقبة وما تلاها فيقول: «كان منهم الموظفون في كل مصلحة حتى تولى نوبار باشا رئاسة النظار»، حيث «كان قائمقام الخديوي ورئيس الاحتفال بموكب المحمل الشريف، فهل يوجد في أمة غير الأمة المصرية مثل هذا التساهل فيرأس احتفالاً دينياً مسيحياً مسلم أو غير مسيحي؟».
وعند الرجوع إلى الأدب العربي الذي بدأ مع حقبة شوقي سنراه أدباً شاملاً داعياً إلى الوحدة بين المصريين. ومن الطريف هنا أن نذكر ما جاء في «أسواق الذهب» لـ شوقي من دعاءٍ لله خصَّه بالصلاة العامة يقول فيه: «هذه كنانتك فزع إليك بنوها، وهرع إليك ساكنوها؛ هلالاً وصليباً، بعيداً وقريباً، شباناً وشيباً، نجيبة ونجيباً؛ مستبقين كنائسك المكرمة، التي رفعتها لقدسك أعتاباً، ميممين مساجدك المعظمة، التي شرعتها لكرمك أبواباً؛ نسألك فيها بعيسى روح الحق، ومحمد نبي الصدق، وبموسى الهارب من الرق؛ كما نسألك بالشهر الأبر والصائمية، وليله الأغر والقائمية، وبهذه الصلاة العامة من أقباط الوادي ومسلميه: أن تعزنا بالعتق إلاّ من ولائك، ولا تذلنا بالرق لغير آلائك».
في خاتمة الحديث، تعازينا إلى مصر والمصريين مسلمين وأقباطاً. وما ذكرته هو ما يجب أن نعلمه عن الأقباط أخوتنا في الإنسانية... فـ «الناس صنفان: إما أخ لك في الدِّين أو نظير لك في الخلق».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4548 - الأربعاء 18 فبراير 2015م الموافق 28 ربيع الثاني 1436هـ
شكرا
بادرة طيبة ان نستطلع خفايا من يعيشون بين ظهرانينا وهم اخوة لنا لاسباب عدة يتم اخفاء ثقافة وايدلوجية الاقليات