يوماً بعد يوم تتشكل ملامح استراتيجية أردنية بهدف «سحق» تنظيم «داعش» باستخدام الوسائل المشروعة كافة منذ بث تنظيم «داعش» فيلم حرق الطيار معاذ الكساسبة حياً قبل أسبوعين، واضعاً الأردنيين وجهاً لوجه مع حرب على إرهاب بات يهدّد استقرار المملكة وحدودها، وذلك وفق ما نقلت صحيفة الحياة اليوم الثلثاء (17 فبراير / شباط 2015).
يشرف الملك عبدالله الثاني شخصياً على صوغ مفاصل هذا الجهد، متسلحاً بإسناد شعبي قائم على ثنائية «معنا أو ضدنا»، بعد أن تغيرت قواعد اشتباك الأردن في التحالف العربي - الدولي بقيادة أميركا ضد «داعش» وأخواته في سورية والعراق من حرب استباقية دفاعية إلى هجومية بامتياز.
اندفاع الأردن يعكس استراتيجية وضعتها واشنطن عقب حرق الكساسبة تتضمن نقلة نوعية في العمليات العسكرية بدءاً من نيسان (أبريل)، وصولاً إلى حرق «داعش» بضربات جوية تسندها عمليات برية لجنود أميركيين منتشرين في المنطقة، وبقوات أخرى في التحالف الدولي.
ويترافق أيضاً مع طلب الرئيس الأميركي باراك أوباما تفويضاً من الكونغرس باستخدام القوة العسكرية، وحصر العمليات بثلاث سنوات بما فيها نشر قوات خاصة إن اقتضت الضرورة. معطوفاً على ذلك قرار مجلس الأمن يوم الجمعة بتجفيف شرايين «داعش» و «جبهة النصرة» تحت الفصل السابع، من خلال قطع خطوط تجارة النفط وتهريب الأثار والفدية مقابل الاختطاف والتبرعات.
لكن أحد التحديات أمام الاستراتيجية الأردنية يكمن في كيفية العمل ضمن ظروف إقليمية معقدة وغياب دعم النظام السوري الذي يأمل بأن توفر الحرب على «داعش» طوقاً لنجاته. وهو يحذر الأردن من أي أعمال عسكرية من شأنها خرق أراضيه، وإن أدرك الجميع أن سورية لا تمانع في القضاء على «داعش» بعد أن انقلب السحر على الساحر.
لذلك، يصر المسؤولون على أن عمان تتحرك ضمن الإمكانات المشروعة في التعامل مع التحدي «الداعشي» في سورية، علماً أن الآية معكوسة في العراق، حيث تقف حكومته بجانب الأردن وسائر التحالف.
في خلفية المشهد خطر وقوع مواجهة بين القوات السورية والأردنية عبر الحدود «لأتفه الأسباب» في حال استطاع الأسد كسب معركة الجنوب الاستراتيجية في محافظات القنيطرة ودرعا وريف دمشق. فالمعارك العنيفة مستمرة بين قوات النظام وحلفائه «حزب الله» اللبناني وعناصر إيرانية من جهة وفصائل المعارضة المسلحة.
عمان تنفي مزاعم سورية بوجود غرفة عمليات مشتركة في الأردن توجه عمليات المسلحين بإدارة أجهزة استخبارات وجنرالات من السعودية وأميركا وغيرهما من دول التحالف. إسرائيل أيضاً في حال استنفار على حدودها الشمالية خشية وصول «حزب الله» وعناصر إيرانية إلى الجوار.
الجهد العسكري الأردني المتصاعد والمكلف مالياً ينشط ضمن مظلة التحالف الفاعلة منذ ستة شهور، وإن طال الجدال حيال نوعية ضرباتها وقدرتها على محاصرة نفوذ التنظيم عسكرياً.
وهو يتضمن تكثيف طلعات سلاح الجو الأردني في سماء الرقة ودير الزور ومناطق في العراق، تدريب وتسليح الجيش السوري الحر وتنظيمات معارضة معتدلة لكي تشارك في حملة القضاء على «داعش» في سورية.
لكنه، ووفق مسؤول رفيع، لا يتضمن إرسال أية قوات برية من (الفرقة 13) من الجيش الأردني إلى العراق أو سورية، لتنفيذ وعد قطعه الملك شخصياً بالانتقام لدم الشهيد وشن حرب بلا هوادة ضد معاقل «داعش» ورموزه.
الأردن يتكئ على إسناد الجيش العراقي وقوات البيشمركة الكردية كقوات رئيسية في الهجوم البري قيد الإعداد. لكن قواته الخاصة ستنفذ عمليات عابرة للحدود لقطف رأس أبو بكر البغدادي وغيره من زعماء «داعش»، كما فعلت بعد تفجيرات فنادق عمان عام 2005، حين ساهمت في قنص زعيم «القاعدة» في بلاد الرافدين أبو مصعب الزرقاوي وغيره.
لضمان تنفيذ ذلك، توصلت عمان إلى تفاهمات مع الحكومة العراقية تسمح بتحرك قوات خاصة ضمن مساحة لا تتعدى 200 كيلومتر مربع في عمق المناطق العراقية القريبة من معاقل «داعش»، وفق ديبلوماسيين غربيين ومسؤولين.
واشنطن، التي تقود التحالف، ستساهم في تغطية غالبية الأعباء المالية المتزايدة لهذا التصعيد، بخاصة الضربات الجوية التي تشنها مقاتلات سلاح الجو بصورة شبه يومية منذ أسبوعين. وتعول واشنطن على خبرة الأردن الأمنية والاستخباراتية والعسكرية الاحترافية بعد عقود من التجربة العملية مع المملكة، خصوصاً عندما أعلنت واشنطن الحرب على إرهاب «القاعدة» في 2001.
وتأمل عمان بأن ترد واشنطن بسرعة على لائحة طلبات عسكرية، في مقدمها مقاتلات حديثة وأخرى للاستشعار عن بعد بلا طيار وأسلحة وذخائر ومعدات تعقب وإنقاذ. وتأمل بالحصول على دعم عسكري خليجي من السعودية، بعد أن أرسلت الإمارات العربية سرباً من مقاتلاتها لإسناد عمان.
التصعيد ضد تشكيل إرهابي يجمع بين سمات القتال النظامي وحرب العصابات قد يفتح الباب أمام هجمات انتقامية «داعشية» ضد أهداف حيوية. لكن المسؤولين يؤكدون استعداد بلادهم للتعامل مع الاحتمالات كافة، بعد أن تغيرت قواعد اللعبة بحرق الطيار الأسير.
ويراهن مسؤولون على وحدة الأردنيين. وضع الجبهة الداخلية كان سيكون مختلفاً لو لجأ التنظيم الإرهابي إلى طريقته التقليدية في تصفية الرهائن عبر جز أعناقهم، وفق ردود الفعل السابقة والحشد الوطني غداة سقوط مقاتلة الكساسبة والأيام الصعبة التي سبقت بث فيديو إعدامه. لكن وحشية تصفيته بالصوت والصورة وحّدت غالبية الأردنيين وولّدت رغبة شعبية عارمة في الانتقام، استثمرتها الدولة بمكوناتها الرسمية بسرعة ولمصلحة توسيع نطاق الحرب والوصول إلى زعماء «داعش» انتقاماً لدم الشهيد.
بسرعة تم تحييد التيار الإسلامي وكسب تأييد منظر التيار السلفي الجهادي أبو محمد المقدسي. حسمت الأصوات المترددة حيال «داعش» لتصبح غالبية الأردنيين ضد التنظيم الإرهابي، على رغم أن له أكثر من 8000 مناصر في الداخل، بمن فيهم 2000 يعدون ضمن فئة الأشد خطراً وفق تصنيفات مسؤولين.
لكن أجواء الغضب الشعبي عكست أيضاً تضاؤل مستوى تقبل الرأي العام لأي نقد مغاير لقطبية «معنا أو ضدنا»، أو محاولة التساؤل عن المدى الذي سيذهب إليه صانع القرار بعد أن غدا الأردن الرسمي والشعبي أكثر علانية في عدائه لـ «داعش».
وهنا مكمن الخطر. فالإعلام الرسمي والخاص يقف خلف القصر في معركة صراع بقاء، ولا يبادر إلى متابعة التحضيرات العسكرية والعمليات. ينتظر تلقي أخبار وبيانات رسمية عن سير المعارك في ظل غياب حوار وطني عقلاني تدخل فيه حسابات إمكانات البلاد، مصالحها المملكة وسلامة مواطنيها، كما حصل لدى انضمامها إلى التحالف قبل تهيئة الرأي.
يصعب على الساسة والمحللين الحديث عن فرص التصعيد العسكري ضد «داعش» وأخطاره، قبل أن تهدأ النفوس أو تتبين الكيفية التي سيترجم الرئيس الأميركي - بصفته قائد التحالف - التعهد الذي قطعه بعد حرق الكساسبة بـ «مضاعفة اليقظة وتصميم التحالف لضمان الهزيمة الكاملة لتنظيم داعش»، وأيضاً موقف الكونغرس من طلب تفويضه.
لكن عمان تدرك بأن لا مناص من استراتيجية سياسية وعسكرية جوية وبرية أوسع وأوضح ضمن مراجعة دولية شاملة لعمليات التحالف الدولي يكون فيها للمملكة دور محوري، لأنه بات واضحاً أن الغارات الجوية وحدها لن تهزم «داعش».
تشعر المملكة اليوم بأنها تخوض حرباً على الإرهاب بالإنابة عن العالم، وفق مسؤول رفيع.
في المقابل، برزت أصوات خافتة لساسة ومحللين حيال المدى الذي سيذهب إليه الأردن في هذه الحرب وكلفتها الآنية والمستقبلية، وعلى أي من حلفائه العرب والغربيين سيعتمد في ظل ظروف معقدة ومصالح إقليمية ودولية متضاربة؟
تطالب هذه الأصوات بضمانات أميركية لتغطية كلفة مضاعفة جهود الأردن القتالية ونفقات طلعات مقاتلات «إف - 16» المتقادمة، المتصاعدة على الخزينة المثقلة أصلاً بالديون. وتتساءل: هل تقدر أميركا - صاحبة السياسات المتلكئة والغامضة - على تكثيف ثقلها في التحالف بينما تعمل في الخفاء مع إيران للتوصل إلى تفاهمات تقلق حلفاءها الخليجيين وتتحدث عبر وسطاء مع الرئيس السوري لضمان دعمه في محاربة «داعش» في غياب بديل مقنع داخل المعارضة المشرذمة؟ كيف ستنجح مهمة القضاء على «داعش» طالما أبقت تركيا حدودها مفتوحة من دون حسيب أو رقيب وسهّلت تدفق متطوعين، والمال والعتاد إلى سورية؟ وهل تقبل روسيا التضحية بحليفها الأسد لإنجاح جهود التحالف أو ينجح الأخير في تسويق نفسه كشريك في التحالف؟ هل سيظل مستوى الحماسة الشعبية على الوتيرة ذاتها؟ هل الأردنيون مستعدون لتحمل كلفة توسيع انخراط بلادهم في الحرب مع احتمال وقوع جنود وطيارين أسرى في يد التنظيم أو خسارة أرواحهم في العمليات؟ وهل سيلجأ الأردن لفرض الأحكام العرفية في حال ازداد الموقف العسكري تعقيداً، إضافة إلى فرض المزيد من التشديد على الحريات السياسية والإعلامية المتراجعة أصلاً في ظل الوضع الاقتصادي والمعيشي الصعب؟ هل ينجح الأردن في إدارة سقف التوقعات الشعبية العالية التي نشأت عن التصعيد الأخير ضد «داعش»، في حال شعرت المملكة بأن حلفاءها لن يسعفوها، وقد ينكشف ظهرها.
في انتظار ما ستحمله الأيام المقبلة يأتيك الرد الرسمي جاهزاً: «هذه حرب جديرة بخوضها من أجل مصالح الأردن ومستقبله واستقراره، واستقرار المنطقة بأسرها وسائر العالم».