العدد 4543 - الجمعة 13 فبراير 2015م الموافق 23 ربيع الثاني 1436هـ

من الأسطورة التي لا تنتهي إلى البدويِّ الذي عمل حارساً في القاهرة

«بدو وسْط الجزيرة» لـ «جوهن هيس»...

«عندما قام الشريف الحسين بن علي بثورته على الأتراك المعروفة بـ (الثورة العربية) كانت إحدى الحاميات التركية صامدة ولم تسقط، وعندما وصلها جيش الشريف بقيادة ابنه الشريف عبدالله بن الحسين، كان الجنود الأتراك مستميتين في الدفاع عنها فأمطروا جيش الشريف بالرصاص، وهنا بدأ الشريف في إثارة الحميّة في رجاله وأخذ ينخى القبائل بأسمائها والرجال الشجعان المشاهير. فقام أحد جنوده وركض نحو الباب حتى وصله ثم قام من خلفه رجال. هنا سأل الشريف عن هذا المقدام فقيل له بأنه موهّق بن عجَاج الروقي العتيبي».

يرد ذلك في مقدمة الطبعة العربية لكتاب «بدو وسط الجزيرة... عادات - تقاليد - حكايات وأغانٍ» لـ «جون جكوب هيس»، الذي تولّى ترجمته محمد كبيبو، وراجعه وعلق عليه وقدم له الباحث والأكاديمي محمد سلطان العتيبي.

موهِّق (أي: جالب الهمّ) العتيبي بحسب شهادة هيس في مقدمته «هو المصدر الرئيسي لأبحاثي عن لغة وعادات وتقاليد البدو الموجودين في المناطق الداخلية من شبه الجزيرة. ويعود الفضل إلى معلوماته الموثوقة إلى أبعد الحدود، والتي لم يؤكدها بعض البدو الآخرين فحسب وإنما أيضاً التعاريف الواردة في المعاجم العربية الكلاسيكية. في شرْح الكلمات العائدة لمعجم لم ينشر بعد عن لغة البدو في وسط شبه الجزيرة العربية».

موهّق هذا يروي جانباً من قصته لـ «هيس»: «طلّق أبي أمي قبل عشر ليال من ولادتي فسمّتني موهق؛ لأن الطلاق جلب لها الهم. ظلت ترضعني حتى صرت أمشي ثم قذفتني إلى جدتي، أم أبي، التي تولت تربيتي. ولما صار عمري ثلاث سنوات ختنوني عند بئر الشبرمية (الشبرمية ماء في وادي الشبرم لقبيلة الغنانيم من ذوي عطية من الروقة من عتيبة وتقع غرب مدينة عفيف بـ 25 كيلومتراً)، وذبحوا في حفلة ختاني ثلاثين خروفاً: خروفان من والدي والباقي من أقربائي»... ويكمل «ولما بلغت الخامسة عشرة من عمري علّمتني جدتي الصلاة بما فيها من حركات ونصوص. في وقت لاحق قام أبي بغزوة على ظهر جمل وغنِم أربع نوق واشترى بثمن ناقتين منها حصاناً ثم بدأ يشن به الغزوات فغنِم وجمع العديد من رؤوس الإبل، فلما تكاثرت الإبل صرت راعياً لها وكان عمري 18 تقريباً».

البدوي... الحارس الليلي في القاهرة

جاب موهّق بن عجَاج الروقي العتيبي الأرض كأن الحاضرة العربية التي جابها بمثابة الصحراء التي لا يعرف الاستقرار فيها. ذلك ما حدث في حاضرة العرب الأولى (القاهرة) وعودته إليها. «أمضى نحو خمس سنوات بوظيفة معلم للغته، وراوٍ وشارح لعادات قبيلته. غادر القاهرة وذهب إلى مكة ثم إلى موطنه. خلال الحرب العالمية الأولى أمضى ست سنوات جندياً في خدمة شريف مكة، وبعد ذلك بقي عدة سنوات في القاهرة عند الشريف على باشا العبدلي الذي عزلته حكومة تركيا الفتاة العام 1907. وبعد أن عاد فترة من الزمن إلى موطنه جاء مرة أخرى إلى القاهرة حيث عمل منذ العام 1930 حارساً ليلياً لأملاك عزيز عزت بابا».

يتحرّى هيس ويجعل من القصة والرواية - كثير منها متاخم للأسطورة - مدخلاً بطريقة ما للوقوف على جانب من تلك العادات والتقاليد. الأغاني نفسها وما سبق يعد بمثابة تثبيت للهجات. ما القاموس؟ كيف يتراكم؟ إنه في جانب كبير منه يستمد أصوله وجذره وتثبيته من السائد من كل ذلك. لكن غلبة القصة لغريب وافد فيما يكتب هو الأكثر ثباتاً في الذاكرة والأقرب إلى الذين يبحثون عن معرفة واكتشاف بشر وأمكنة في الجانب الآخر والمنسي من ذلك العالم في تلك الفترة الغارقة والضاربة في حاجتها وتخلفها أيضاً.

حكاية/ أسطورة النجوم... الذئب والجنِّي

في المدى المفتوح. في البيئات الشحيحة التي تتهدد فيها حياة الفرد والجماعة. قسوتها. طبيعة العلاقات غير المستقرة. التحفّز. كل ذلك منبت خصب لتولّد الأسطورة. تكون أحياناً بمثابة تعويض عن العجز، والفاقة، والقلق، والتحول في العلاقات. ما يحيط تلك البيئة وما يعلوها هو الآخر يدخل ضمن المادة الخام لتلك الأسطورة. هيس لا يخترع شيئاً من ذلك. بالمعايشة والحضور والاندماج في تلك المجتمعات المحدودة والمتنقلة، ينقل عنهم كل ذلك. لكل قبيلة أساطيرها. حكاياتها الشعبية التي لا تستقر على نص. الشفهية هي التي تمنح تلك الحكاية تجددها وإضافاتها وهوامشها. كأنها لم ولن تكتمل. المخيلة الشعبية تلعب دوراً في ذلك. لا شيء مكتوباً. المكتوب ثابت. الشفهي متحرك.

«روى لنا علي المنصور حكاية عن بنات النعش (نجوم الدب الأكبر السبعة) وهي أن الكبش (نجم القطب) طلب إحدى البنات من أبيها، وعندما رفض أبوها الطلب خطفها وولّى هارباً، لكنه خاف من انتقام أبيها فقتله ولجأ طلباً للحماية إلى نجوم الحويزين، إلى النجمتين السيارتين الصغيرتين (نجمتا بيتا وغاما في مجموعة الدب الأصغر). قام البنات بنقل أبيهن في النعش إلى المقبرة. وبعد دفنه تابعن مسيرهن وهن يحملن النعش لأنهن كن يردن قتل الكبش ثأراً لأبيهن ولأنه خطف أختهن. وعندما جئن وأردن القبض عليه قال: يا أيتها النجمات السائرات في الليل، لست أنا المذنب. بل إن المذنب هو سهيل. بناء على ذلك بدأن البحث عن سهيل فجاء باتجاههن من بعيد وقال: يا أيتها النجمات السائرات في الليل، لست أنا المذْنب. بل إن المذنب هو الكبش. فتوجهت البنات مرة أخرى إلى الكبش لقتله، لكن نجوم الحويزين وقفت أمامه وحررته لأنه كان تحت حمايتها، وهذا هو تصرفها على الدوام».

يركّز هيس على القصص التي لا تتكرر. لن تجدها في بيئات أخرى. أعني البيئات المستقرة المطمئنة المرفهة، تلك التي تراكم العلاقات التكاملية. يجد في القصص تلك قدرة على تجييرها واعتبارها مفاتيح لفهم تلك المجموعات كما هي عليه اليوم وبعيداً عن الأسطورة. يكفي أن يكونوا قادرين على تطويع تلك البيئة بكل الجحيم الذي تكتنز به. تلك لوحدها أسطورة!

وعلى لسان المجموعات تلك التي عاشرها لزمن ليس بالقصير، يورد قصة المجنون الذي عجز الأطباء والسحرة عن شفائه. بعد ليلة شديدة البرودة أقعى المريض الفقير أمام الخيمة لكي يدفئ نفسه قليلاً بأشعة الشمس الأولى. لكن الجنيّ (أي الروح الشريرة الساكنة فيه) شعر بالبرْد أيضاً فخرج منه وأقعى هو الآخر مقابله منتظراً طلوع الشمس أيضاً. عندئذ جاء ذئب ووقف خلف الجني، فرآه المريض لكنه لم ينبس ببنت كلمة واحدة. وهكذا انقضّ الذئب على الجني وافترسه. وبذلك شفي المجنون من مرضه.

زواج البدو

«الحَجْر» معضلة. ولذلك امتداد ضارب في الزمنة منذ تشكل تلك المجموعات في تلك البيئات. اليوم ربما اختفى بعض الشيء لكنه لم ينتهِ. اليوم مازال قائماً. «إذا كان لأحدهم ابنة عم يستطيع منعها من الزواج بأن يقول: «إنني أحجرها عن الرجال». عندئذ لا يستطيع أبوها تزويجها، ولا يستطيع أي رجل آخر الزواج منها. وإذا ما زوّجوها في غيابه فإنه يقتل أباها أو أخاها أو الرجل الذي تزوّجها. وإذا كانت هي لا تريد ابن عمها فإنه يضايقها سنة أو سنتين - وحتى خمس سنوات. وإذا ما رفضت البنت ابن عمها وكان رجل آخر يريدها وهي تريده فإن أول ما يفعله هذا الرجل أنه يذهب إلى ابن عمها، الذي عزلها عن الرجال، ويدفع له جمَلاً. فإذا ما قبل ابن العم (حرفياً: سامح) يدفع الرجل مهرها ويتزوجها».

الكتاب يتناول عادات البدو، وقوانينهم والزواج، كما يتناول الأغاني والترحال، ويفرد مساحة للحيوانات. يقف طويلاً عند «القبيلة - الشيخ»، والثأر، الحماية، الغزو، الأسلحة، الخيمة، الغذاء وتحضير الطعام، بعض الموازين والمقاييس، الدباغة، الملابس، الرقص والألعاب الدورانية، كرم الضيافة، بعض العادات الحقوقية والعبارات المستعملة عند البيع، علاج الأمراض، التصورات والعادات الدينية، صِيَغ اليمين والقسَم، الإيمان بالأرواح والسحر، عادات الموت، واللعنات والدعاء بالأذى.

العدد 4543 - الجمعة 13 فبراير 2015م الموافق 23 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً