العدد 4543 - الجمعة 13 فبراير 2015م الموافق 23 ربيع الثاني 1436هـ

«كريستوفر» تجسر الطريق إلى النصر

في فيلم «لعبة التقليد» The Imitation Game

المنامة - سيد عدنان الموسوي 

13 فبراير 2015

إن إمكانية حل شفرة «النغما» بالشكل التقليدي تعني ببساطة شديدة حل 159 مليون مليون مليون فرضية، أعني 159 وأمامها ثمانية عشر صفراً، والتي يحتاج عمل فريق كامل لحلها في 20 عاماً. هذه الفرضية ذات الرقم الفلكي الهائل يجب حلها في فترة قياسية لا تتعدى 20 دقيقة!!؟. أي محنة تلك التي ألقيت على عاتق «ألان تورنغ» وفريقه، ذلك ما يتحدث عنه فيلم The Imitation Game.

في بداية الحرب العالمية الثانية من عام 1939 مُني الأسطول البريطاني والقوات البريطانية بخسائر فادحة من القوات الألمانية، والسبب أن الإشارة تصل من القيادة في برلين إلى القوات الألمانية الغازية كل يوم بشفرة معقدة عصية على الفك يتم على أساسها إختيار الأهداف في الساعة والمكان مما مكن الغواصات الألمانية من إغراق العديد من السفن الحربية البريطانية وصولاً إلى سفن المؤن الغذائية وإرسالها إلى قاع المحيط.

هذه الشفرات كانت تتغير كل مساء، في الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل. من جانب آخر لم تكن المملكة المتحدة (بريطانيا) بغافلة عن هذا الأمر لذا وظفت فريق عمل متكامل لاعتراض تلك الشفرات، ولكن كان من الصعب فك شفرة «النغما» إن لم تكن مستحيلة كما أسلفت والسبب إن هتلر كان ينوي اجتياح بريطانيا وقد اختار لهذه المهمة شفرات معقدة.

لذا قررت «إم أى 5» توظيف فريق من أمهر الرجال في حل الكلمات المتقاطعة لمساعدة فريق الاعتراض في حل تلك الشفرات كان من ضمن هذا الفريق «ألان تورنغ» وهو عالم رياضيات وبروفيسور في جامعة كمبريدج في السابعة والعشرين من العمر. بعد العمل لفترة قصيرة قرر «تورنغ» أنه لا سبيل لفك شفرة «النغما» إلا بعمل آلة أخرى تحاكيها إذ لا يستطيع الإنسان العادي فك رموز آلة معقدة فـ «النغما» تعمل كالآلة الكاتبة ولكن بنظام مختلف تماماً، إذ عند إدخال الحرف F فإنها تعطينا الحرف V بمعنى عندما تطلب منها مهمة معينة تعطيك مهمة أخرى مختلفة، كما أن رموزها تتبع جداول خاصة غير معروفة.

وهكذا بدأ الفريق في العمل من سبتمبر عام 1939 في تدشين آلة عملاقة تقوم باستبعاد الأرقام والخيارات غير اللازمة والعمل على المحصلة الباقية، ولكن بعد عمل شاق لم يفلح الفريق في فك شفرة واحدة، وكاد الأمر أن ينتهي بطرد «ألان تورنغ» لولا تدخل رفاقه في الوقت المناسب والقبول بمهلة أخرى على أن لا تزيد عن شهر واحد لا غير.

في إحدى الليالي وبينما كان الفريق يحتسون البيرة في الحانة القريبة من محل عملهم (ستاشن أكس) وفي غمرة البحث عن أي خيط يقود للبحث. أوحت لهم شابة من قسم اعتراض الشفرات أنها على علاقة مع ألماني لا تعرفه؟ كيف ذلك؟ وكان جوابها: عندما أعترض أية رسالة فإنني في الحقيقة أعترض رسالة من ُمرسل ألماني تبدأ بستة أحرف كل يوم.

وكان جوابها أشبه بالحلقة المفقودة في عمل الفريق إذ سرعان ما ترك السيد «تورنغ» ورفاقه كل ما في أيديهم في الحال وهرعوا إلى «كريستوفر» الآلة المعنية بفك الشفرات واكتشفوا في الحال أن كل شفرة تأتي على شكل نشرة أخبار الصباح وتنتهي بـ «هاي هتلر»، وبدأ الفريق في نفس اليلة ينتقل من غرفة «كريستوفر» إلى الآلة التي تحاكي «النغما» وهكذا قطعة قطعة بدأوا في فك رموز «النغما» في ليلة شاءت الأقدار أن تفيق الإنسانية على صباح يوم جديد يقرب المسافة للخلاص من الحرب النازية ويضع حداً للقتل والدمار. كانت فرحة عارمة ثمل فيها أعضاء الفريق من نشوة الانتصار والعناق ابتهاجاً ببزوغ فجر النصر.

في الحال رفع أحدهم سماعة الهاتف ليبلغ المسئول بالخبر السار فاعترضه السيد «تورنغ» بأن مهمتنا هي فك الرموز وليس التدخل في مجريات الحرب والتي رأى «ألان» أنها يجب أن توضع تحت أيدي بعض الجهات السياسية للتعامل معها بالشكل الصحيح إلا أن أحد أعضاء الفريق اعترض بشدة على السيد «تورنغ» وبلغ الأمر أن لكمه في وجهه ولكن بعد أن أدركوا مصدر خوفه، أيقنوا أنه كان على حق إذ لو ُكشفت هذه الأسرار للحلفاء فربما يشك الألمان أن شفرتهم قد فكت وسيعملون في الحال على تغييرها في نفس الأسبوع وبذلك يضيع مجهود 20 شهراً من العمل بدون توقف وتضيع معه فرصة الإيقاع بالقوات الألمانية وجحافلها الغازية.

أما المهمة التالية فقد كانت أشق وأقسي من الأولى، أعلى من العواطف وفوق الحماس والواجب القومي تجاه المملكة المتحدة !؟ إذ تستدعي تكبيد العدو الحد الأدنى من الخسائر لإنقاص فترة الحرب ما أمكن وإلحاقه بالحد الأقصى من الخسائر دون أن يشك للحظة في موضوع الشفرة؟. وهنا بدأت القوات البريطانية في تسريب بعض المعلومات إلى قوات الحلفاء ولكن بتقنين شديد بينما تعمل جهات مختصة من جانب آخر على إبراز وإيعاز انتصاراتها على القوات الألمانية لأسباب أخرى بعيدة كل البعد عن موضوع فك الشفرة.

وبدأوا في خلق الأكاذيب والافتراضات والتكهنات المختلفة وصولاً ربما إلى الحدس الذي صدقه الفريقان وصارت نغمة شائعة على ألسنة الجميع إلا من بعض الجهات الرسمية التى تكتمت على الأمر. وهكذا ساعد فك شفرة «النغما» في تقليص فترة الحرب سنتين وساهمت في إنقاد أرواح الملايين من الناس والمدن والممتلكات.

بعد انتهاء الحرب كان حزن أعضاء الفريق كبيراً بعد أن سُرحوا من عملهم وطُلب منهم حرق كل الوثائق والمستندات ذات العلاقة بعملهم في «بلاتشلى بارك» أما حزن «ألان تورنغ» فقد كان مضاعفاً إذ ودع بمرارة أعظم إنجازاتة «كريستوفر» الآلة التي هزمت «النغما» وجعلت معنىً حقيقياً لحياته. هذه الآلة التي أعطاها إسماً لصديق قديم عزيز على قلبه. شاءت الأقدار وبترصد إذ بعد أن سلبت منه كريستوفر صديق الصبا والدراسة الحميم هاهي تعيد الكرة مجددا وتسلب منه صديق عمره ومفخرة حياته كريستوفر الآلة التي قهرت المستحيل.

وبقى أمرٌ آخر، عندما نتأمل حياة العباقرة والفلاسفة نقف عند أمرٍ غريب وهو استغراقهم في عملهم حتى الإدمان ويكون ذلك في الغالب على حساب أمور جوهرية ومصيرية في حياتهم الاجتماعية كالحب والزواج والحياة الأسرية. وقد رأينا هذا الأمر في حياة المفكر والفيلسوف «فلاديمير لينين» وغيره من مشاهير الغناء العربي كعبد الحليم حافظ والسيدة أم كلثوم، و»ألان تورنغ» لم يكن استثناءً عن الآخرين وإن شابه اختلاف من نوع آخر فقد كان ومنذ صغره مثلياً وشاذاً وهي بالتأكيد عاهة ربما كان لا يملك لردها سبيلاً وهو في عنفوان عبقريته المبكرة وإنجازاته الواعدة أو حتى لا يملك الوقت لمداواتها. فى لحظة صفاء اعترف (ألان) لصديقته إننى لا أصلح لك زوجاً لأننى «مثلي» ومختلف عن غيرى من الرجال، فأجابته: هل عندك شك فى أنك مختلف؟ من كان لينجز ما أنجزته إن لم يكن مختلفاً؟

بعد العمل في «بلاتشلى بارك» عاد «ألان تورنغ» إلى مزاولة هواياته الرياضية المفضلة المارثون والجري. في العام 1952 ألقت السلطات القبض على «ألان تورنغ» بتهمة الشذوذ الجنسي وخيره القاضي بين أمرين، السجن لمدة عامين أو أخذ أدوية لعلاج الشذوذ الجنسي واختار الحل الآخر، وربما بسبب عدم فاعلية تلك الأدوية في تلك الفترة الزمنية، ساعدت في تأزيمه عاطفياً واجتماعياً وربما دفعته لليأس... من يدري؟.

فى يوم 7 يونيو/ حزيران من عام 1954 وضع «ألان تورنغ» حداً لحياته بأخذ حبوب السيانيد، ومات عن 41 عاماً فقط، كانت من أثمن وأغلى السنوات في عمر الإنسانية بشكل عام وبريطانيا وأوروبا بشكل خاص. مدن بأكملها نجت من القصف النازي بسبب إنجازاته الخارقة. 14 عشر مليون من الناس الأبرياء وغيرهم نجوا من الموت النازي. ليس هذا فحسب، إذا دخلت اليوم أحد المتاحف القديمة في لندن فاعلم أن الفضل في نجاتها من القصف وبقائها بكامل حليتها حتى الآن يعود إلى»ألان تورنغ» وفريقه.

كانت 20 شهراً من العمل الدؤوب في «بلاتشلى بارك» سبتمبر/ أيلول 1939 حتى يونيو 1941 من «ألان تورنغ» وفريقه، بصمة شرف على جبين الإنسانية و رمزاً للعطاء والتفاني مغموسة بالحب وإنكار الذات، ليس هذا فحسب بل كانت أعمال السيد «تورنغ» ملهمة لأجيال من العلماء لاحقاً يشار إليها بأعمال «تورنغ». هذه الآلة «كريستوفر» كانت باكورة لعمل جبار غزا البشرية لاحقاً على كل المحاور وفي كل القطاعات وعلى كل الأصعدة الاقتصادية والمالية والعسكرية ولاحقاً الاجتماعية، إنه الحاسوب الآلي والرقمى (الكومبيوتر)، مما استحق بجدارة لقب أبو الكومبيوتر.

واليوم يرجع الفضل لـ «كريستوفر» وإنجازات «تورنغ» من عام 1941 والتي لا يذكرها الكثير من الناس ليس فقط فى تقليص مدة الحرب عامين بل فى تغيير جغرافيا وخارطة العالم الحالية وأوروبا تحديداً، إذ لو تمكنت النازية من احتلال أوروبا لكان العالم اليوم على غير ما هو عليه، ولربما فرضت اللغة الألمانية على العالم الغربي وبعض الشرق.

لقد كان الفيلم مزيجاً من الخوف والترقب والانفعال والبهجة بالنصر، على مدى ساعتين أو أقل، لم أشعر للحظة واحدة أنني أشاهد عرضاً سينمائياً. لقد كان الفيلم مساحة عريضة من الحقيقة المبهرة المشرقة في حياة الإنسانية إلا أن قربنا الشديد من «تورنغ» وفريقه جسد الأحداث الدرامية بشكل أجمل وأبهى من الحقيقة.

العدد 4543 - الجمعة 13 فبراير 2015م الموافق 23 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً