العدد 4543 - الجمعة 13 فبراير 2015م الموافق 23 ربيع الثاني 1436هـ

باربار: إلى حيث ارتحل رجال سومر

قرية باربار، إحدى القرى الواقعة على الساحل الشمالي لكبرى جزر البحرين، وقد اكتسبت هذه القرية شهرتها بسبب ارتباط اسمها باسم الفخار الذي يميز حضارة دلمون، وبسبب وجود معابد أثرية قديمة حملت أيضاً الاسم نفسه. اسم باربار، ذاته، اكتسب أهمية بسبب غرابته ولقربه من مسميات سومرية وأكدية. وأول من حاول تحليل اسم باربار، تحليلاً لغوياً تاريخياً، هو Daniel Potts في الدراسة التي نشرها في العام 1983م. من خلال تحليلات Potts يلاحظ أن اسم باربار مرتبط ارتباطاً شديداً بتاريخ نشأة دلمون. لقد سبق أن تناولنا القصة بالتفصيل في سلسلة مقالات نشرت تحت مسمى «الجذور: البحث عن هوية دلمون»، ولسنا بصدد إعادة ما سبق كتابته، ولكننا سنلخص بعض النصوص لنقرب للقارئ كيف حاول البعض معرفة كيف تم اشتقاق اسم «باربار».

منذ بداية الحضارة في جنوب الرافدين نشأت هناك علاقة بين الجنوب الرافدي وبين الساحل الشرقي للخليج العربي، وبالتحديد في الحقبة العُبيدية الممتدة ما بين 5300 و4300 ق. م. (Carter 2006). بعد ذلك حدثت قطيعة بين الجنوب الرافدي وشرق الجزيرة العربية، وربما يعود ذلك لتغير الظروف المناخية التي أدت إلى أن تكون منطقة شرق الجزيرة العربية شبه خالية من السكان (Uerpmann 2003). ثم بدأت العلاقات تعود بين المنطقتين قرابة العام 3300 ق. م.، أي في حقبة جمدة نصر، حيث عثر على آثار في شرق الجزيرة العربية تدل على وجود استيطان في الحقبة 3300 - 2400 ق.م (Piesinger 1983، p. 467).

وتشير نتائج التنقيبات الآثارية التي أجريت في البحرين لوجود لقى آثارية مهمة تعود لحقبة جمدة نصر 3200 – 3000 ق. م. هذه اللقى تشير بوضوح لوجود استيطان في جزر البحرين منذ بداية ذكر دلمون في حضارة وادي الرافدين قرابة العام 3200 ق. م. وأهم المواقع التي يرجح وجود استيطان فيها في تلك الحقبة هي: الحجر، وشرق كرزكان، وموقع معابد باربار.

«الغرباء» يؤسسون باربار الأولى

تمثل بداية حقبة جمدة نصر في الجنوب الرافدي (3200 – 2900 ق. م.)، نقطة تحول مهمة؛ حيث حدثت فيها عدة تغيرات اجتماعية واقتصادية انعكست على نظام الحياة الاجتماعية، من أهمها الميل نحو زيادة نسبة خصخصة الأعمال، وإعطاء الجماعات العرقية، التي تتعايش ضمن بلاد سومر، استقلالية أكبر (Steinkeller 1991، 2004). لقد ساهمت تلك التغيرات في إنعاش حركة التجارة، لكنها أدت لتكون جماعات مستقلة قادرة على تكوين ثقافة خاصة بها؛ وبذلك شهدت بداية هذه الحقبة هجرات مختلفة، منها هجرة عدة جماعات واستقرارها في شرق الجزيرة العربية، وبالتحديد جزيرة تاروت وجزيرة البحرين الكبرى.

إحدى تلك الجماعات استقرت في منطقة باربار على الساحل الشمالي لجزيرة البحرين الكبرى، حيث تأسست واحدة من أولى المستوطنات في البحرين، والتي ربما عرفت منذ تلك الحقبة باسم «باربار»؛ حيث يقترح Potts أن أصل التسمية «باربار» من اللفظ السومرية (bar) وتعني «الغريب»، تم تكرارها لتشير للجمع فتعني بذلك «الغرباء»، وفي ذلك إشارة إلى أن الدلمونيين الأوائل قد هاجروا من موطنهم الأصلي كي يؤسسوا حضارة جديدة في هذا الجزء من العالم (Potts 1983). يذكر أنه عثر في الطبقات الدنيا في موقع معابد باربار على قطع فخار تعود لحقبة جمدة نصر؛ وعليه تم الترجيح أن معابد باربار شُيدت على منطقة كانت في الأصل مستوطنة تعود لحقبة جمدة نصر (Mortensen 1986).

لم تكن جماعة الغرباء التي استوطنت باربار هي الوحيدة، بل كان هناك آلاف الغرباء يعيشون ضمن بلاد سومر، والذين قدموا من حضارة وادي السند وحضارات أخرى. وهذه الجماعات بدأت تتسلل خارج سومر، وتعاظمت هجرتهم بعد أن غزى سرجون الأكدي (2340 – 2280 ق. م.) سومر واستطاع أن يسيطر عليها، وأن يغير من النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وبدأ التغير الواضح في سومر من الاشتراكية إلى الرأسمالية (Heinz 2007). أدت تلك التغيرات لهجرة جماعات جديدة من الغرباء الذين استقروا بجوار المهاجرين الأوائل في جزر البحرين. وقد تمكنوا من تأسيس حضارة قوية قادرة على الصمود في وجه سرجون وجيوشه.

بلا شك أن المؤسسين كانوا على درجة عالية من الثقافة والدراية بأنظمة التجارة؛ فاختاروا جزيرة البحرين، لبعدها عن البر الرئيسي الذي أصبح ملاذاً لعددٍ من الجماعات التي بدأت تفر من التغيرات البيئية والجفاف الذي بدأ في المناطق المجاورة (Zarines 1986)، وكذلك لموقعها الاستراتيجي في الخليج العربي.

باربار حيث معبد إله الشمس

من أوائل الآثار وأهمها التي عثر عليها في البحرين، والذي يربطها بحضارة سومر، هي معابد باربار. وهي ثلاثة معابد بنيت فوق بعضها البعض في فترات تاريخية متفرقة تقع في الفترة 2100 – 1800 ق. م. (ِHojlund et al. 2005)، أي أنها بنيت بعد سقوط سومر في الجنوب الرافدي، إلا أن من قام ببنائها كان متأثراً بثقافة سومر. فمنذ اللحظة الأولى للتنقيب في هذه المعابد وجد أن المعبدين الأول والثاني يتشابهان هندسياً مع بناء المعابد السومرية وخصوصاً معبد العُبيد الذي بني للآلهة ننخرساج، وخصوصاً المعبد الأول (Andersen 1986).

ويقترح Potts أن المعبد الأول خصص لعبادة إله الشمس أوتو السومري أو الإله شمش الأكدي، ومن ذلك اشتق اسم المكان الذي بني به المعبد وهو «باربار»؛ حيث إن السائد في الجنوب الرافدي تسميت المعابد المخصصة لإله الشمس باسم e-babbar (إي – بابار) (Potts 1983).

لم يقتصر تشابه معابد باربار مع المعابد السومرية على الشكل فقط، بل ببعض المقتنيات التي عثرت فيه. فقد عثرت البعثة الدنمركية في الطبقة العليا من المعبد الثاني على رأس ثور مصنوع من النحاس (During Caspers 1971). إن تقليد استخدام رأس الثور كان معروفاً في الحضارة السومرية حيث عثر عليه في المعابد والقبور في العبيد وخفاجة وأور، وقد كان يستخدم في التزيين وفي الغالب تزيين صندوق القيثارة (During Caspers 1971).

باربار حيث ملتقى الثقافات

مما سبق يلاحظ أن Potts حاول ربط اسم باربار بالثقافات التي تأثرت بها الجماعات الأولى التي أسست دلمون وهي السومرية والأكدية، إلا أن هناك ثقافات أخرى تأثرت بها هذه الجماعة. فما أن استقر الدلمونيون الأوائل في البحرين حتى بدأوا باستنساخ أنظمة تجارية واجتماعية من الحضارات المجاورة وتطويرها، فطقوس الدفن وطريقة بناء القبور أخذت عن ثقافة أم النار، حتى طرق البناء، فمعبد باربار الثاني بني بهندسة سومرية ولكن بطريقة بناء شبيهة لطريقة البناء في ثقافة «أم النار» (Doe 1986). كذلك فقد عثر في معبد باربار الثالث على مقبض لمرآة معدنية، ويلاحظ من خلال تقنية الصنعة، والرمزية التي تحملها، أنها تعكس تأثراً واضحاً من ثقافتين مختلفتين، ثقافة حضارة وادي السند والثقافة السومرية (During-Caspers 1973). لا نعلم بالتحديد مدى صحة فرضيات Potts حول مسمى باربار، إلا أنه يمكننا أن نرجح أن الدلمونيين الأوائل كانت جماعة كونت لنفسها ثقافة تميزها، وهي ثقافة تكونت بسبب عرقيتها التي تنتمي لها وبسبب احتكاكها بثقافات أخرى؛ وبذلك كونت لنفسها حضارة لها هوية مختلفة عن باقي الحضارات، وفي الوقت نفسه، جزء كبير من هذه الهوية يتشابه مع حضارة وادي السند، وجزء منها يتشابه مع الثقافة السومرية. ثم، بعد ذلك، تطورت ثقافة دلمون – البحرين لتعكس تأثيرات لثقافات لاحقة تأثرت بها. وأخذت في التطور حتى تم إيقاف تقدمها بالقوة ومن ثم طمسها. إلا أن موقع معابد باربار استمر يعكس آثار الثقافات اللاحقة.

العدد 4543 - الجمعة 13 فبراير 2015م الموافق 23 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً