عدسة مُصوِّر بريطاني - لا يحضرني اسمه - اشتغلتْ على قراءة المنافي واللجوء عبر عيِّنة من الأحذية، معظمها لأطفال، ربما لو تمكَّنوا من التمييز وقتها، أول شيء سيستهلِّونه بشرارة الوعي الطفولي، هو لعن لحظة الميلاد التي جاءت بهم إلى هذا العالم الموبوء بالحروب والقلاقل والتقسيم، والحدود الموصدة أمام أبنائه قبل الغرباء.

رصْدٌ فيه من حساسية اللحظة وشاعريتها ما هو مُركَّز. يختزل سيرة هجرات إلى بلاد لن تسلمهم إلى الدفء والأحضان، بقدر ما تلقي بهم في مساحة من الحنين المبكِّر عليهم من جهة، والطفولة التي لا تعاني من النقصان فحسب، بل إذعانها إلى نضج مبكِّر مُكلف وفادح، يستلُّهم من أجمل اللحظات والعمر الذي من المفترض في حدوده الطبيعية، أن يتوافر فيه النسيان أكثر من التذكُّر. التذكُّر الذي لا يستدعي سوى بحر من الغصص والآلام، والتهام براءتهم بإسلامهم إلى ما تتمخَّض عنه الحروب والذين يشعلونها.

لا تتأتَّى مثل تلك الحساسية وزاويتها؛ إلا بالقدرة والاستعداد لتعرية تلك الزاوية من القبح، على رغم الجمالية التي تريد إيصالها. في البؤس جمالية أيضاً، وفي الشقاء كذلك. جماليته في موهبة تمتلك تفجير طاقتها في تقديمه وإبرازه، وفي الوقت نفسه، تحوي كل ذلك نص تعرية واضحاً لا لبس فيه، ضمن أدوات تظل استثنائية، وليست عابرة وعرضة للنسيان.

تعلَّمْنا من المضيء من الأعمال الإبداعية على اختلاف توجهاتها، والتجليات التي تبرز منها، أن الفن عموماً، مما هو عرضة للنسيان، وتلفظه الذاكرة، ذلك الذي لم يستطع القبض على حساسية اللحظة، ولم يستطع احتواء تركيز تلك اللحظة في جانب من عمل فني، تجده هناك في ثنايا العمل، ولا تحتاج إلى كبير موهبة وعين ناقدة كي تلتفت إلى قيمته، بقدرته على استدراجك، وغوايتك بتلك الحساسية والتكثيف.

يمكننا أن نقرأ في الأحذية البالية تلك، والتي لم تخْلُ من أناقة كانت متوافرة لها ذات ظرف، الخوف، البرد، الجحيم، الحنين، التيه، الأحلام المؤجَّلة، الخيبات، الانكسار، وأيضاً الأمل وإن كان شحيحاً! نعم في ذروة الجحيم ذاك لا يمكن للأمل أن يذوي، وإلا ما كان لأولئك أن يعبروا أكثر من جحيم إلى ما يشبه الحياة، أو لا شيء يدل عليها في كثير من الأحيان، منتصبين، ومندفعين نحو أبواب للنجاة يتلمَّسونها أو يتوهَّمونها، كلما استحكم إغلاق الحدود.

التحدِّي الأبرز الذي يواجه نظرة الإنسان إلى الفن، هو في القدرة على إحداث مثل تلك الصدمة وتحقيقها. البلادة والاسترخاء هما الشائعان اليوم. مثل ذلك الإدمان على تلك البلادة والاسترخاء، هو ما يهدِّد الإنسان، لا في مخيَّلته فحسب؛ بل في إثبات أنه كائن له الحق في التمايز وتصدُّر بقية الكائنات. عدم بحثه عن الصدمة في الفن والأشكال الإبداعية، هو الذي يجعله أحد المُهدِّدات التي هي في طريقها إلى إفناء هذا الكوكب الذي كان جميلاً، وسيظل ما بقيت الطاقات الخلَّاقة قادرة على تحقيق تلك الضرورة: الصدمة!