نستوعب الأشياء عندما نقترب منها، أو حين تقترب هي منا. من تلك الأشياء: المرض. فمادام الناس في صِحَّة فإنهم لا يفهمون ماذا يعني المرض. قد يتحدث الأصِحَّاء عنه كونه خللاً وظيفياً، نتيجة الإصابة أو الإعاقة، لكنهم لا يدركون حقيقته؛ لأنهم خارج التجربة الحسّيَّة للضرر النسيجي الذي يُصاب به الجسم وآثاره العاطفية.
في الأيام التي خَلَت، كنت أفكر في الظروف التي تحيط بالأمراض والعلاج الخاص بكل منها. لكن، ورغم فتك الأمراض وتوالدها والتطورات الخاصة بعلاجها بشكل دائم، فإن من الأشياء التي تجعل المرء يتواضع أمامها هي «التخدير» رغم مُضي أزيد من 168 عاماً على اكتشافه وتوظيفه في العمليات الجراحية، بعد آلاف السنين من العجز أمام الألم.
كان الأطباء في السنين التي سبقت اكتشاف التخدير، يلجأون إلى طرق يائسة كي يستطيعوا أن يُجروا عملياتهم الجراحية للمرضى بشكل آمن. استخدموا النباتات والكحول بشتى مراتبها فلم ينفع، إذْ كان العديد من المرضى يفارقون الحياة من الألم حين يبدأ الطبيب في شَقِّ الجلد والوصول إلى العظم.
كان المرضى يُربَطون على الخشب الصحيح، وتُقيَّد أيديهم وأرجلهم كي لا يعفروا من الألم، وكأنهم في مراسم إعدام. لقد لجأ الصينيون القدماء إلى ضرب المريض على قَذَاله (مؤخر الرأس) كي يُغمَى عليه قبل أن يبدأوا في إجراء عملية جراحية له. لكن عمق الجرح وشدة الألم كانت تجعله يفيق والأطباء لايزالون يشْرِطون في الجلد.
قد لا نستوعب هذا الأمر مطلقاً. فنحن لم نُدرك ما قبل السادس عشر من أكتوبر 1846، عندما أجرِيَت أول عملية جراحية باستخدام التخدير في أحد مستشفيات ماساشوسيتس الأميركية لمريض اسمه جِلْبِرْت أبُّوْت اختار أن يُجرَّب عليه، لا لأنه ينظر إلى حياته بسخرية، بل لأنه هائِبٌ من الألم، ومن مصير قد يلقاه كما لَقِيه الآلاف قبله.
لنا أن نتخيَّل كيف تُفتَح الصُّدور، وتُفَكَّ الأضلاع، وتُستَخرج القلوب مدة سبع ساعات أو أكثر والمريض راقدٌ بلا ألم ولا إحساس لحظتها! أو تُشق الرؤوس وتكشف الجماجم عمّا بداخلها ثم تُرتَق دون أن يحس المريض بشيء، مع تذكّر أن تنفس المريض يسير بشكل طبيعي، ونبض قلبه يدق بانتظام! إنه بحق، فَتحٌ عظيمٌ توصلت إليه البشرية.
لكن، ورغم التأكيد على ذلك الفتح العلمي الهائل، الذي غيَّر من مجرى الطب ومن متوسط أعمار البشر، مَنْ منا تذكر وليام مورتون أول مَنْ استخدم التخدير في العمليات الجراحية؟ ربما لا نتذكره بالمرة، لا اسماً ولا شخصاً. هل لأنه مات منذ 147 عاماً؟ ربما. فـ «الموتى ليسوا موتى بالنسبة لنا حتى ننساهم» كما كانت تقول جورج إليوت، وهو ما حصل لنا مع هذا المكتشِف النابغة.
لم نكتفِ بنسيان مورتون، بل نسينا أيضاً بول نبيكوف الذي اخترع لنا التلفاز، والكسندر بوبوف الذي اخترع لنا المذياع، وغراهام بيل الذي اخترع لنا الهاتف، وروبرت بويل الذي اخترع لنا الكاميرا! لنا أن نتخيّّل عالمنا بلا تلفاز ولا مذياع ولا هاتف ولا كاميرا (فضلاً عن مادة التخدير) فماذا سيكون حالنا. إنه عصر بلا طعم ولا لون ولا رائحة.
لحظة النسيان هذه لا نستحضرها كي نقتنع بأننا لسنا أوفياء لأولئك العلماء فقط، بل نستحضرها كي نُدرك أن لحظة النسيان تلك هي التي أنستنا أنفسنا، فلم نعد قادرين على محاكاة العلم، والرغبة في الاكتشاف والتطوير، بل القبول بالتسليم أمام ما لدينا من اكتشافات يجلبها لنا الآخرون، وهو ما جعلنا أناساً قَدَرِيِّين لا شأن لنا إلاَّ باللحظة.
عندما نراجع التاريخ سنجد أن المكتشفين ليسوا مثلنا. فلم يكتفِ فارنزورث بما جاء به بول نبيكوف من اختراع للتلفاز، ولم يكتفِ جون بيرد بما جاء به فارنزورث من تطوير للتلفاز، ولم يكتفِ فلاديمير زوريكين بما جاء به جون بيرد، لذلك كان التلفاز قد مرّ بمراحل كثيرة كي يصل إلى أفضل صورة من صور الاختراع بفعل العقول الطامحة لا القَدَريَّة.
ولم يقتنع غوليلمو ماركوني بما جاء به الكسندر بوبوف من اختراع للمذياع، بل سعى إلى تطوير ما أُنجِز، وفي الوقت نفسه لم يقتنع نيكولا تيسلا بما طوَّره ماركوني، فسعى إلى إنتاج مذياع بصورة أكثر جودة. وكذلك الحال مع روبرت بويل وجوهان تزان ولويس داجير مع الكاميرا، حيث كان كل واحدٍ منهم يلتقط نهاية الخيط، كي يبدأ بتطوير ما تمّ إنجازه.
ولو رجعنا إلى أصل الفكرة، فإننا سنجد أن لحظة النسيان لم تكن موجودةً لديهم، بل لحظة الاستحضار الدائم هي التي كانت تحكم حياتهم العلمية والعملية. ولازال الغرب رائداً في ذلك المدار، لذا نجده هو المتفوق علينا علمياً، وفي براءة الاختراعات والتطوير.
وربما قرأ كثيرون منا قبل أيام ما نُشِرَ عن مرصد الفضاء السحيق للمناخ، الذي عَكَفَت على تدشينه وكالة ناسا والإدارة القومية للمحيطات والغلاف الجوي، كبديل لقمر صناعي أمضى عقداً وسبع سنين في الفضاء لـ «مراقبة العواصف الشمسية الخطيرة المحتملة»، دون أن تكون تلك السنوات قادرةً على تكريس النسيان بدل الحضور الدائم.
لن تقوم لنا قائمة، مادمنا غارقين في بحر من النسيان. ولن نعرف حقيقة التطور إلاَّ إذا أدركنا أن العالم لا يحل مشكلةً حتى يأتي بعشر مشاكل غيرها كما قال جورج برنارد شو، وبالتالي يكون ذلك تحدياً لنا كي نبتكر ولا ننسى، فالنسيان هنا ممنوع.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4541 - الأربعاء 11 فبراير 2015م الموافق 21 ربيع الثاني 1436هـ
الفرق
كثير من الناس هنا تفكر في الترف السهل ولو على حساب غيرهم
الحسن بن الهيثم يجب ان يذكر في مجال البصريات والقمرة
اما مخترع التصوير فهو العالم الفرنسي جاكس ماندى داكير يالتعاون مع مواطنه جوسف بيسبور نيبس وذلك بتاريخ 19 اغسطس 1839 من يوم الاثنين صباحا في اكاديمية العلوم الفرنسية...شكرا على مقالاتك المفيدة...حسين علي
بيضي
بيضي على بيضك مرة.
غلطان
الهدف من نسيان المكتشفين و المخترعين في كل العالم خطوة محسوبة و معتمدة و لها أهداف. مقابل ذلك التكبير و التعظيم و الكتابة عن الذين يسمون بالنجوم في أمور زائلة. لذلك نري موت اكثر الذين يبدعون لتحسين حياتنا بظروف مادية لا تليق بهم. اما النجوم فكل صحيفة و جهاز إعلامي لها مساحات للتحدث عن كافة امورهم و خصوصياتهم حتي لو كانت عطستهم!!!!
النظام الخطأ
السؤال المهم هو : كيف يستطيع العربي والمسلم ان يبتكر وينتج ويكتشف ما دام في الغرب ولا يستطيع فعل ذلك في بلاده؟؟؟!! السيستم المعمول به خطأ بالتأكيد
اممم
التقصير في الإبداع ليس خللا فنيا أو عاهة خَلقية فينا! وإنما الفرق في تلك الدول والحكومات التي تشجع المبدعين على الإبداع. نحن في دول مع الأسف تنتهج سياسة التجهيل وفي اعتقادها الراسخ طالما عاش الناس في جهلهم عاشوا هم في ترفهم.