ولدت الحاجية سلامة سلوم في ثلاثينات القرن العشرين بقرية الدَيْر، وتزوّجت حجي عبدالحسين طرار الذي تعلّمت منه منذ الخمسينات العمل التجاري الحر، فاتخذت من إحدى غرف بيتها مكاناً لبيع الأقمشة والألبسة، وقد أصبح مجلساً نسائياً مشهوراً في قرية الدير، إذ كوّنت عبر شخصيتها الجذابة صداقات عابرة للمناطق، المنامة، سماهيج، باربار، رأس رمان، النعيم، وتوفيت قبل عامٍ مخلّفةً ثلاث بنات، و21 حفيداً. «إنها زهرة في حديقة الله».
بهذه العبارات يقدّم لها حفيدها علي الديري سيرتها الحافلة بالعمل وروح العطاء والمتعة، بها ومن خلال سرديتها يعبر الحواجز كاسراً التابو بالكتابة عنها وعن تفاصيل الأشياء والعلاقات يقول فيها: - جدتي (سلامة) التي وسع قلبها كل العالم، انتقلت إلى سعة الله. ما أضيق الأشياء بعدك، وما أوسع الأشياء معك.
ينشر صورها في إطار حياتها الحافلة بالنشاط والحيوية، فالصورة تحكي التفاصيل الدفينة كما الكاميرا التي التقطتها تؤرخ للمكان والزمان والإنسان، هي ذاتها الصورة التي طالما وقفت حواجز التابو سداً منيعاً في الكشف عن مكنوناتها، لم لا وصور النساء كما صوتهن «عورة» في ثقافة الحلال والحرام وفي تاريخ الغشاء والغشاوة والكفر والتكفير.
يقف المرء مدهوشاً من فعل السرد وجرأته حين يسترسل فيه الحفيد ويخوض في تجليات السيرة المعبرة عن سير جيل من الجدات والأمهات المنسيات القابعات في بيوتهن أو مجالسهن ومحددات حياتهن، بعيداً عن الفضاء العام، تلك المساحات التي يتراءى لنا من خارج الإطار والسياق بأنها حركة حياة رتيبة منكسرة وتابعة وعابرة، وقل فيها ما تشاء من توصيفات درج الخطاب التسطيحي المتعالي عن نبش جوهر حقائقها، فتناولها بشيء من الترفع والاغتراب، واصفاً إياها اختصاراً بعبارة «تخلّف».
من السيرة ينزاح المستور وبما لا يمكن التملص منه ونكرانه عن طبيعة مجتمع محسوس لكنه غير مرئي، تتسيّد فيه النساء اللاتي يعملن ويعبرن بذكائهن الاجتماعي الفطري إلى عوالم الرجال، يقتحمن أسياج المجتمع بطريقتهن، وبما تفرضه عليهن أيضاً منظومة معقدة وشرسة من ثقافة وقيم وعادات وتقاليد يساهمن -في مفارقة أخرى- بتأصيلها وإعادة إنتاجها في البيت والمدرسة والمجالس والمأتم وكل الفضاءات والعلاقات التي تحتويهن. وهذا الذي يفسّر مراوحتهن وبقاءهن في مجتمعاتنا الشرقية عموماً، في وضع المنتهكة حقوقهن والمسلوبة فرصهن، على رغم ما يحققنه في العصر الحديث من مستويات تعليم متقدمة وخبرات حياتية ومهنية متراكمة.
كل يكتب تاريخه
في جانب مهم من جوانب سيرة «سلامة» يؤرّخ الحفيد لجزء أصيل من التاريخ السجالي المغضوب منه. إنه ذاته الجزء المبتور من تاريخ الآخر المختلف والمهمّش، وهذا الجزء المبتور؛ مجتزأ مرتين، ثمة اجتزاء ممن يسقط من اعتباراته سرديات التاريخ الذي يحاربه ولا يعنيه بظنٍّ منه أن فيه فناءه وأنه الأوحد والأبقى والأحق بالذاكرة الجمعية التي تحتويها كتب التاريخ والجغرافيا المدرسية، وما عداه فلا مكان له ولا زمان؛ واجتزاء آخر يأتي من الذهنية الذكورية المتمترسة عند حدود «أن للرجل ضعف ما للمرأة وهي طوع أمره وإرادته وهي ناقصة العقل والدين»، هذه الذهنية التي تراكمت فيها اتجاهات تفكير وسلوك بحكم التربية والخبرات المتوارثة المتأصلة، لا تكتبُ في صفحات التاريخ إلا تواريخ الرجال وبطولاتهم وحكاياتهم. هي غير معنية بتاريخ النساء أو بتفاصيل حياتهن وعلاقاتهن وحتى نضالاتهن في منعطفات الحياة وانعكاساتها على أسرهن وأوطانهن. وبعيداً عن المبالغة، إنها التجربة الأولى التي تُكتب فيها سيرة الجدة بهذا النمط من التفاصيل في إطار علاقتها الأسرية وريادتها للنشاط الاجتماعي بالمأتم النسائي، وعن بنية القيادة الثلاثية في مأتم «بيت الحايي» الذي تقوم الجدة سلامة على خدمته. فالحديث يتتابع عن التراتبيات وعن سلطة صوت «الملاية» التي هي سلطة الأمر في مأتم النساء. وهكذا على وقع سيل عاطفة الأمومة الجيّاشة يواصل الحفيد تدوين بدايات الجذور كما دون أمين معلوف جذوره بنبش صندوق الذكريات:
- هي تحكي الحلم في صيغة الحقيقة الواقعة، يدون «الحفيد»، تمعن في واقعيتها بأن توجه بعضاً من عتبها إلى من قصروا في الحضور. وأنا بعيد عنها في المدرسة بيومي الأول في الصف الأول ابتدائي، كنت أرى في هذا البعد فراقاً يدعوني للبكاء بحرقة. اليوم أجد في كل هذا البعد القاسي موتاً آخر، يضاعف من فداحة فقدها. قلت لها مرة «أريد كتابة تاريخ مأتمك؟ ضحكت كعادتها، لا تبدأ حديثاً من غير أن تريك عبر ضحكتها سنّها الذهبي الذي يحمل ملمحاً من ملامح تباهيها المعروف بحُليها وذوقها الجديد دوماً في اللبس والعطر، كنت في مجلسها العامر بالنسوة دوماً ومن أجيال مختلفة. فنساء هذا المجلس هنَّ أنفسهن نساء المأتم. لمجلسها رواد الضحى ورواد الأصيل (العصر)، أعمارهن مختلفة، وأمزجتهن مختلفة، وحالاتهن الأسرية مختلفة. لكل منهن مكانان، مكانها في المجلس، ومكانها في قلب سلامة، قلبها الذي يسع حكاياتهن وأرواحهن المؤتلفة مع روحها الحيوية دوماً. ليس بين مجلسها ومأتمها سوى نافذة، في المأتم تحضر سير القتلى من كربلاء وآل البيت، وفي المجلس تحضر سير الحياة كلها حلوها ومرها، غريبها ومألوفها. النساء في المأتم يعشن التاريخ لكنهن لا يعرفن التاريخ، بل ليس هناك تاريخ، هناك لحظة زمنية أبدية سرمدية معاشة بحرارة القتلى».
يناقش في السيرة أثر التحولات والمتغيرات السياسية والأيدلوجية التي طرأت على مأتم النساء، فيخلص إلى أن المآتم النسائية ظلت بحكم عزلتها البيتوتية مكاناً للمخيلة المطلقة الجامحة التي لا يحدها عقل صارم ولا شرع متشدد. ولأنها مخيلة نسائية بوجه عام، فلا مكان للكلام الموجّه بخط حركي أو أيديولوجي فيها، فليس هناك خطابة تصنعها موجات فكرية، هناك نياحة وسيرة (شبه تاريخية) ومرويات سردية وقصائد مقفّاة وأصوات نسائية تضج على إيقاع الحزن والبكاء.
المأتم جزء من ثقافتنا
يشير الحفيد في سيرة مأتم جدته سلامة، إلى أن سير ملايات المأتم وتجاربهن تمثل جزءًا من ثقافتنا التي يجب الإنصات إليها، وفهمها وتوثيقها بعيداً عن حس الإدانة الديني أو الأيدلوجي، وذلك لما له من تأثير في تحفيز المخيال والإبداع، بيد أنه يحق السؤال عن مدى استعداد هذه الثقافة وقدرتها على الإنصات والتداول حول ما يشبه المسلمات. في هذا السياق يستذكر الحفيد ما راج من رأي في الثمانينيات بأن المأتم النسائي لم يستجب لصوت الصحوة الإسلامية بسبب تخلف الملايات وقصور وعيهن الذي لا يسمح بالتغيير، مستدركاً بأن المحاضِرات الجدد ممن زاحمن الملايات هن أيضاً لا يمتلكن الوعي والطرح القادر على أخذ النساء إلى الركب الحضاري والثقافي والاجتماعي.
ويخلص وقتها إلى أن خطاب الصحوة بحسه الأيدلوجي لم يجد في خطاب الملاية، ما يعزّز من سلطته واستحواذه وتفسيره لواقعة كربلاء، التي راح يؤولها لصالح حسه الثوري، ولأنه خطاب لا يحسن الإنصات إلى ما يختلف معه، فإنه لم يجد في الملاية غير علامة على نقص الوعي والتخلف والتقليدية وعدم القدرة على طرح الإسلام وكربلاء طرحاً جديداً، لكنه لم يكن ومازال عاجزاً عن أن يرى مأزقه في تضييق الإسلام وأدلجة كربلاء.
إلى هنا يستغرق في سرد تجربته مع مأتم الجدة ومحاولة تغيير الاتجاه السائد بتقليص مساحة النعي التي هي مساحة المخيلة ومحل خصوبتها حسب تعبيره، وتوسيع مساحة الخطابة التي هي محل الفكر والوعي «كنت أرى في هذه المخيلة أسطورة تجتر الدمعة لا الفكرة، مخيلة لا تستجيب لحركة الواقع التي كنا مأخوذين بها حد مجاوزة الواقع... كنا نحلم بخطاب نسائي يحمل طرحاً سياسياً ووعياً تربوياً ومجتمعياً وتاريخياً».
في المحصلة حكاية «سلامة سلوم» تفتح صندوق أسئلة عميقة ومحرجة حول التحولات الفكرية وتأثيرها على مخيال الحاضر، لاسيما لجهة أحادية خطاب التلقين الذي لا يقبل المجادلة. إنها حقاً أزمة حضارية من الأزمات التي تضيق في إطارها مساحات التعبير في شكلها الاجتماعي والأيدلوجي.
ختاماً، يبدو إن سيرة «سلامة» ما هي إلا مفتاح حلمٍ إن توقف، توقفت معه قلوبنا عن رؤية الحقيقة وجمال الأشياء.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4540 - الثلثاء 10 فبراير 2015م الموافق 20 ربيع الثاني 1436هـ