المثقفون شريحة اجتماعية متميزة في المجتمع، وتلعب دوراً حاسماً في إشاعة الوعي بين أفراد المجتمع وترشيد القوى السياسية والنقابية والمجتمعية. ولذا فإن انتصار أي قضية أو فشلها رهنٌ بدور النخبة المثقفة، وبالطبع فإن لكل قوى سياسية أو مجتمعية نخبها أيضاً.
بالنسبة لمنطقة الخليج العربي، والتي كانت متخلّفةً بعقود عن المشرق العربي أو مصر خلال مرحلة ما قبل الاستقلال، وقبل ترسيخ مفاعيل النفط، فقد كان عدد المثقفين محدوداً، بل إن دور المثقف الوطني الخليجي قد حمله أيضاً مثقفون عرب من الشام ومصر المقيمين بيننا، ودفعوا ثمناً لذلك على يد السلطة البريطانية المتحكمة في الخليج آنذاك.
ولاشك أننا نسترجع دور القلة من المثقفين الخليجيين ومعظمهم من خريجي الجامعات العربية وقليل منهم من الجامعات الغربية، حيث لم تكن هناك جامعات في الخليج. وقد لعب هؤلاء دوراً حاسماً في نشر الأفكار الوطنية والتقدمية والتحديثية، وكان بعضهم في صفوف الحركة الوطنية بمختلف تلاوينها. وقد دفع بعض هؤلاء الثمن غالياً بالسجن والتهجير والتهميش. لكن مع مرحلة ما بعد الاستقلال وحاجة الدولة لكوادر محلية في إداراتها العليا، ومع اكتساح تأثيرات النفط وعوائده، فقد استخدمت السلطات سياسة «سيف المعز وذهبه». ولذا فقد تخلى عديدون منهم عن مهمتم النبيلة وانساقوا وراء المغريات. وظل معظم هؤلاء «رجل مع الشعب ورجل مع السلطة»، مع تفاوت مواقفهم تبعاً لاعتبارات عديدة. وكان ذلك ممكناً في ظل الهامش المتاح لحرية التعبير مع التباين من بلد خليجي لآخر، ومن مرحلة وأخرى. ولكن مع هبوب رياح الربيع العربي على منطقة الخليج وما أثاره من حراك شعبي بتعبيرات متفاوتة، فقد اتخذ قرار إقليمي بالتصدي لهذا الربيع بكل السبل.
ولأول مرةٍ في تاريخ المنطقة، تعمد السلطات إلى تجاوز ما عُرف كـ «خطوط حمر»، مراعاةً في التعامل مع مواطنيها، حيث تم التعاطي الأمني مع المحتجين، والاعتقالات الجماعية التي شملت حتى النساء والأطفال والشيوخ لأول مرة، فضلاً عن التهجير، وإسقاط الجنسيات، وتكميم الأفواه، ووصم المعارضين بالعمالة والخيانة... والقائمة تطول.
وفي الوقت ذاته، عمدت السلطات إلى تقديم المكرمات والهبات لشراء سكوت المواطنين عن المطالبة بحقوقهم في الديمقراطية والمشاركة واحترام حقوق الإنسان باعتبارهم مواطنين وليس رعايا، كما يتم التعامل معهم. وهنا كانت السلطات الخليجية بحاجةٍ إلى المثقفين والأدباء والكتاب والصحافيين والأكاديميين، وخصوصاً من لهم رصيد وطني وجماهيري، لإضفاء المشروعية على سياساتها وإجراءاتها.
على امتداد أربع سنوات من الربيع العربي والحراك الذي لا سابق له في بلدان الخليج العربي، أتيح لي المجال لحضور العشرات من المؤتمرات والندوات في منطقة الخليج والمنطقة العربية، وفي بلدان غربية، حيث يتم طرح الموضوعات والمواقف المتعلقة بهذا الصراع الذي يتخذ إلى جانب الصراع على الأرض، صراعاً فكرياً أيضاً. لقد صُدمت من مواقف أساتذة كبار من النخبة الخليجية المثقفة وهم يُمعنون في الدفاع عن سياسات الأنظمة وإجراءاتها المخالفة لحقوق الإنسان، رغم ما وصلت إليه الشعوب الخليجية من تطور ووعي، ويبرّرون ذلك بمختلف التبريرات وسوق الكثير من الحجج الواهية، مع محاولة إضفاء صفة العملية والموضوعية على أطروحاتهم.
ولست في وارد تسجيل أطروحاتهم التي لا تقوى على الصمود في أية مجادلة علمية، فالواقع يقول إن الصراع السياسي مستمر، ولم يخدع الشعب ولا النخب العربية والغربية المستقلة بأطروحات هذه النخب. ومن الواضح أن دفاعهم المستميت عمّا هو غير منطقي ليس من دون ثمن، والملاحظ أن بعضهم قد كوفئ بمناصب ومواهب وامتيازات، وليس بالضرورة في مواقع حكومية مكشوفة، ولكن في واجهاتٍ معينة كما تدعى مراكز بحوث أو مجالس تخصصية، فضلاً عن المؤتمرات والمهمات الخاصة المدفوعة الثمن.
كما أن لهؤلاء المثقفين الخليجيين دوراً في تجنيد أكاديميين ومثقفين غربيين للانضمام إلى ما وصفه عالم الاجتماعي المشهور على الوردي «وعاظ السلاطين». وقد بادرت بعض الدول لاستضافة مراكز بحوث غربية، والترويج للمؤتمرات الباذخة، لاجتذاب المئات من الباحثين العرب والأجانب، من أجل الترويج للطروحات الرسمية.
وإذا كانت هذه الخطة لم تنجح في خداع المواطنين الخليجيين، فإنها كانت موجّهة لخداع الحكومات والرأي العام في الغرب، لإقناعهم باستمرار بأن الواقع الحالي هو أكبر ضمانة لعدم انتشار الفكر المتطرف وبروز القوى المتطرفة الإسلاموية واليسارية، ومواجهة قوى إقليمية معادية للغرب وضمان استمرار المصالح الغربية في المنطقة.
وفي الوقت ذاته، يقوم هؤلاء المثقفون بالترويج للمؤسسات الشكلية، مثل مجالس الشورى والبرلمانات والجمعيات والانتخابات، بأنها قاعدةٌ للتحديث والتحوّل الديمقراطي التدريجي، بما يتلاءم مع «الخصوصية» والثقافة المحلية. ودائماً ما يطرح منطق «أنكم في أوروبا احتجتم إلى قرونٍ لبلوغ الديمقراطية، ولذا يجب أن تصبروا علينا عقوداً أو قروناً للوصول لما وصلتم إليه»!
ويشكّل هؤلاء المثقفون خصوصاً خريجي الجامعات الغربية، الجسر الذي يربط السلطات ومؤسساتها وكذلك مراكز البحوث الممولة من الدول، مع مثيلاتها في الغرب، مستفيدين من علاقاتهم مع الجسم الأكاديمي، ومعرفتهم بالعقلية الغربية ومنطقها، لإقناع نظرائهم الغربيين بمنطق الأنظمة.
في نقاش لي مع أحد الأكاديميين الغربيين طرحت عليه المفارقة في استقلالية المثقف الغربي، وتبعية الكثير من المثقفين الخليجيين، فردّ عليّ بما مفاده إن استقلالية المثقف الغربي وسمعته الأكاديمية ومكانته الأدبية، أهم لديه بكثير من المكاسب المادية والمناصب، كما أن البنية الفكرية والسياسية والمجتمعية تعطي المثقف الغربي حصانة في مواجهة الضغوط والإغراءات. خذ مثلاً عالم اللسانيات الأميركي البروفيسور نعوم تشومسكي، وهو يتصدّى للإمبربالية الأميركية ورؤسائها ومؤسساتها وفكرها، وهو لم يزل متحصناً بجامعة هارفرد العريقة، ويعيش حياةً متقشّفةً، أما عندكم فإضافةً إلى غياب الضمانات لاستقلالية المثقف وممارسته لحقه في النقد والتعبير، فإن هناك استعدادات لدى الكثير من مثقفيكم للهث وراء الإغراءات والمناصب والمكاسب.
لكن الصورة ليست بهذه القتامة، فلأول مرةٍ في تاريخ المنطقة تظهر فئة من المثقفين والحقوقيين والنشطاء المستعلين حتى على التنظيمات السياسية، ومن مختلف الاتجاهات العلمانية والإسلامية، بالتصدي للإستبداد والوقوف مع شعوبهم، واستعدادهم لدفع الثمن سجناً وتهجيراً وتهميشاً، وطردهم من وظائفهم أو حرمانهم من ممارسة مهنهم، خصوصاً المحامين والمعلّمين.
كما أنه وفي ظل شيوع وسائل التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية، فإن شباباً واعياً يتصدّى لمهام التوعية، ولتثقيف الجمهور بقضايا الحرية والكرامة والحقوق والعدالة والمواطنة. وهذه فئة حديثة من المثقفين الممارسين، أي «المثقف العضوي» حسب تعبير غرامشي.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 4540 - الثلثاء 10 فبراير 2015م الموافق 20 ربيع الثاني 1436هـ
رد على زائر 3
المرجعيه الشيعيه هى التى حافضت على الاسلام ولولاها لدمرت جميع بلد\\ان المسلمين بقيادة المثقفين الفاسدين الي ما يعرفون الى تراس جيبهم من اموال الحرام ولا حنى يعرفوون شرع الله مجرد ديكور وبدلات لاكنهم عقولهم شيطانيه اللهم احفض لنا جميع المراجع العظام واولهم السيستانى والخمنائى وجميع العلماء الافاضل واهلك اعدائهم
مشكلة المثقف الخليجي
ان اغلبهم يعيش على راتب المنصب الحكومي سواء في جامعه او كليه اوغيرها وليس له مصدر رزق اخر يعتاش عليه فلذلك سكوتهم ليس حبا في النظام ولا دفاعا عنه انما خوفا على مصدر رزقه ورزق عياله
يبتها..من آخرها
تسلم ايدك
ظاهرة " المثقف العضوي " أصبحت حقيقة يزداد انتشارها يوماً بعد يوم.
اتصور بأن الجزء المهم من هؤلاء هو المتعالي على الانتماءات الطائفية و العرقية بل ضد الموروث السلبي العنصري و الرجعي على السواء .. و إذا كان " ذهب المعز " قد احتوى بعض المثقفين فإن هذا الذهب لن يستمر بنفس الوفرة في المستقبل مما يعني تقلص عدد هؤلاء.
تحياتي لك استاذ عبد النبي
ماذا عن ارتداد النخبة الدينية؟
ارتداد النخبة الخليجية المثقفة عن رسالتها جريمة ثقافية و ردة حضارية. فماذا عن ارتداد النخبة الدينية المرجعية عن عن رسالتها ؟ إنها جريمة العصر! فأعان الله شعوب هذه الزمان.