العدد 4536 - الجمعة 06 فبراير 2015م الموافق 16 ربيع الثاني 1436هـ

أن تُحدِّث الغائبَ كأنَّه هنا... بل هو كذلك

«لفافة» عبدالله السبب للعنْدَل صاحب «الروليت»

عبدالله السبب
عبدالله السبب

«نتجنَّب وعورة السكوت

ومشقَّة الكلام»...

عبدالله السبب، شاعر رأس الخيمة وراويتها بالقليل من الكلام. يهدي صديق التأمل والكلام الاستثنائي، الشاعر الراحل علي العندل مجموعته «لفافة» الصادرة عن وزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع بدولة الإمارات العربية المتحدة، في العام 2014.

كأنها «لفافة» فيها من الكلام/ الشعر ما يحدِّث به السبب الغائب وكأنه هنا؛ بل هو كذلك، على رغم توحِّده مع الغياب الضروري والطارئ؛ إلا أنه في الضرورة من الحضور الأخَّاذ الذي لم يمسَسْه سوء.

العندل الذي بدا؛ بل كان غير متصالح مع الحياة، وهو يذرع ثوانيها وأمكنتها الرحبة والضيقة، محبّاً للحياة أيضاً في صورة أو أخرى، كتب ذات نص:

ألعب الروليت

ودماغي لا يصادف الموت

أخرج حاملاً مسدسي

وأصابعي المرتجفة

خمس طلقات للجمهور

والسادسة لدماغي

كل يوم أرسم موتي في قالب

لا أريد

أحداً لسفك دمي...

أنا...

وحدي قادر

على الشراب الأخير.

عشر سنوات على رحيل العندل الذي غادر العالم يوم الخامس من يونيو/ حزيران 2004، بعد صراع مع المرض. الشاعر المأخوذ بالفلسفة التي ظل يمْتَح منها، في رؤيته العميقة، وتعاطيه مع الشعر باعتباره أسلوب حياة، إن لم يكن هو الحياة. المشغول بالأسئلة الصعبة، والذي لم يركن لقطعيات الإجابات ما لم تكن مربكة ومستفزة وتحمل في طياتها حاضر ومستقبل الأسئلة الماثل لا الغياب.

كتب لصديقه الشاعر السبب في العام 1998: «يا عبدالله يا صديقي: الكتابة سلعتنا الخاسرة، ولا مفر منها الآن. اعتنِ بنفسك يا عبدالله، واستمر في رحلتك بحذر».

وهو الذي سبر غور الحياة يعلم بحجم الأذى الذي لن توفره مع الأصدقاء الذين بادلهم طزاجة الشعر وحرقة الأسئلة. يعلم مكرها المسيء والسيئ في آن معاً. لا يحترف الشاعر الوصايا وليست تلك مهمته. وهو وإن مسه شيء من التنبؤ إلا أنه لا يدّعيه ولا يحترفه، وفي ما يخص الحياة لا يحتاج الشاعر إلى مثل تلك النبوءة كي يحرص على سلامة وطمأنينة الأصدقاء بعد رحيله.

«لا الليل يُثنيه/ يَثنيه»

في نص السبب «في محاولة الظفر بأنفاسي»، نقف على قدرة السبب على تحويل الكلام الذي يبدو عادياً إلى الملفت من الشعر الذي لا تتفضّل عليه بالوقوف عليه؛ بل هو الذي يتفضّل عليك. كل شعر ملفت هو دعوة للعالم للخروج من تفاهته، والخروج من مدى العين المباشرة، عين الخارج إلى عين الداخل. في كثير من الأحيان تتعطل الثانية وتهيمن الأولى في نظرها إلى النص.

«مختبئاً، خلف أعمدة الإنارة

أو أسفل شجرة ثقيلة الظل على المارَّة،

مختبئاً، مخترقاً حاجز الصوت،

والصمت، والسكوت،

لا الليل يُثنيه،

لا الشمس تَثنيه،

ولا الغيم يسلبه الوميض...

جماعة الحمَّاريين

رفقة خالد الراشد وأحمد راشد ثاني وغيرهما، كان علي العندل، أحد الذين خرجوا على الساحة الثقافية في الإمارات بمغايرتهم الدائمة. تفتقت ذهنياتهم عن تأسيس اعتبار ونظر أكثر من تأسيس جماعة أطلقوا عليها «جماعة الحمّاريين» في محاولة منهم لإعادة الاعتبار لذلك الكائن الذين يكون الشاهد الحاضر والسخيف على الغباء وبلادة الذهن والغياب أيضاً؛ عدا الإذعان والامتثال.

كانت الساحة الإماراتية وقتها في خطواتها الأولى للحاق بساحات ثقافية في المنطقة نضجت تجاربها، كانت البحرين والكويت وعُمان، وبعض أسماء في العربية السعودية، لا تنفكُّ تبثُّ استفزاز مشاريع إبداعية لأسماء يُعدُّون على أصابع اليد الواحدة في كل بلد. «بيانات غامضة، وحركات ملاماتية سعوا في الصحارى، وعلى الطرقات يُعرُّون المستور، ويصرخون من الغامض، ويلعنون الهباء».

كل تأسيس في هذا القفر هو ضرب من الجنون. لم يكن الجنون سُبَّة بالنسبة إليهم. هم في كل ما يصدر عنهم من كتابة ورؤى، وحتى علاقات، في الورطة من تلك الصفة. في الورطة من الجنون.

«بيان الرابطة الحمَّارية» صدر في العام 1983، وفي أواسط الثمانينات، تواصل التجريب ضمن مستوياته الصاعقة والمثيرة للدهشة، فكان لابد من نشرة أدبية حملت اسم «تداعي أشلاء الأرانب القزحية»، ومع أسمائهم التي عرفوا بها، كان لابد من أسماء ارتأوا أنها ستقدِّمهم باعتبارهم ندماء للغرابة. علي العندل: شويحطوين الأزرق، مرعي الحليان: م. الأيلي، وعبدالله العويس: كامل غريب.

لم ينسه صديقنا الشاعر إبراهيم الملا، تماماً كما لم ينسه الشاعر عبدالله السبب، وبقية الأصدقاء، ممن هم من جيلنا. الملا قدَّم لمجموعته الشعرية الأولى واليتيمة «13 نصاً شعرياً»، بالقول: «... من سيدفع الآن فاتورة الرماد كي نستعيد رجفة النار، ومغامرة الكتابة المبكرة اللاهبة، من سيعيد الشرارة للكلمة، والزئير لأحراشنا المنسية، من سيضخ نبض الشعر في أصابعنا الكهلة المتروكة لبرودة العمر والنسيان الكثيف؟».

نواخذة الكلام

نصوص السبب كأنها في بعض مفاصلها ومقاطعها بمثابة «كلاكيت»، من دون استعادة الكلام وتكراره. المفردة متحوّلة، ويطال ذلك التحول، التنويعات والانتقالات، من اللغة التي تبدو أفقاً مزدحماً، إلى مدى آخر يبدو في فردانيته:

ماذا لو... أن نواخذة الكلام

هكذا، فجأة، تنحَّوا عن صمتهم قليلاً،

أطلُّوا بصوتهم، بصورتهم، وبصلاة مخبَّأة

في كتابة مكلَّلة بنسيان

متدلٍّ من شمَّاعة مُشمَّعة

بكبرياء مدلَّل مُكلَّل؟!

كان العندل أحد أولئك النواخذة على اليابسة. لغته بحجم إبحاره في الفيافي التي ولد فيها وأقام. أشرعته السؤال، وبوصلته تلك القدرة على الدخول في تيهه مطمئناً إلى أنه سيأخذ بيده إلى هدى ينتخبه هو!

صدمة الشعر/ القلق

في الشهادات التي قدَّمها أصدقاء الراحل، يمكن الوقوف على مرارات متعدِّدة؛ ليست مرارة الفقد وحدها، فذلك لزوم الغياب؛ ولكن من بينها مرارات افتقاد الجرأة على المبادرات، لا على مستوى المشاريع الإبداعية فقط، ولكن مرارة النسيان الذي يُراد له أن يكون مقيماً، ومحاصراً روح الشاعر حتى وهو في عالمه الآخر.

السينمائي والكاتب الإماراتي مسعود أمر الله، أدلى بشهادة تقصّى فيها الصدمة والهذيان والخيال في درجاته المنهكة، واللغة في مستوياتها الأنيقة والمنفلتة في الوقت نفسه.

في كلام أمر الله على نشرة «تداعي أشلاء الأرانب القزحية»، كان فيها العندل «يمثل أحد أضلاع المثلث الشعري الجديد...» قدَّم العندل «على طبق من قلق، صدمة شعرية معجونة بماء الفلسفة والخيال الهذياني، ماء غسَل ذائقتي الأدبية، ودفعني إلى البحث عن أدوات كتابية جديدة، لها من الجنون ما لها...».

العندل، أمر الله، الراشد، مرعي الحليَّان، أحمد راشد ثاني، وبعيداً عنهم بعض الشيء، خالد بدر عبيد، وصاحب هذه الكتابة، لم يكفُّوا يوماً عن الفتنة. لا يدعونها نائمة في تلك الفترة المبكرة من وداعة المكان، واقتفاء أثر النصوص التي سبقت. كل تلك الوصفات التي كانت جاهزة، كانت تحت مرمانا وتهديدنا. عبدالله السبب هو الآخر لم يكن بمنأى عن ذلك، كان في الصميم باعتباره شاهداً ومأخوذاً بتلك الفتن ومحاولاتها التي لم تتوقف.

كلاكيت ثاني مرة: احذرْ

في الكلام على «الكتابة سلعتنا الخاسرة»، يستأنف العندل انسياقه وراء الحذر الذي يريد تعميمه في المكان. للبشر الذي التصق بأرواحهم ونصوصهم، وكأن لا فرق بين الاثنين: بين الأرواح والنصوص. يستأنف حذره وتحذيره لعبدالله السبب: «عبدالله يا صديقي: الكتابة خطأنا المطبعي... هي جريمة حياتنا الفانية. وعلينا الاستسلام لورطتنا الجميلة هذه. لكن، احترس... من الكتابة، من الصحافة، من النقَّاد، من المنتقدين، من رفاقك، من نفسك، ومن أحلامك الجامحة. يا صديقي: كن على حذر... وكفى».

ما الذي تبقى بعد كل ذلك وأولئك ممن لم يشمله العندل بالحذر منه وفيه؟ كأننا بذلك كائنات حذرة، تظل جافلة طوال تعاطيها مع الأنفاس والنصوص والعلاقات التي نظن أنها لن تهرب منا ذات وشاية أو مكيدة أو موت. كل ذلك برسم الهذيان والتمنّي. تمنّي ألاَّ تحذر من كل ذلك وأولئك. كيف لك بعد ذلك أن تكون كائناً حيّاً من دون قلق وتوجُّس؟ كأن الطمأنينة جنة الزيف بالنسبة إلى الشعراء. بل هي كذلك. لا يلتقي الشعر والاطمئنان. لا يلتقي الشعر وأنت مخمور باليقين. الشعر على قطيعة، أو يكاد مع كل ذلك.

حياة/ نص الفجأة

تنال القصيدة حياة الفجأة. الشاعر هو من يدوزن تلك الحالة؛ لكن يظل الموت في انتظاره، بالفجأة نفسها. وبين هذا وذاك، نص مخاتل، قادر على إقامة مداراته من دون أن يترك حدوداً ماثلة، أو يمكن القبض عليها. هذه المرة، القبض عليها بالرؤيا لا الرؤية وختَل المقاييس. لا يمنحه الوقت الكافي لإعادة ترتيب الحياة من حوله، أو الإمعان في إغراقها بمزيد من الفوضى. في الفجأة كل شيء برسم النقص. من سيكمل النقص بعد الرحيل الموحش ذاك. من سيعيد صياغة الجنون الذي بدأ، وعلى أحدهم أن يأخذ به إلى الحدود القصوى من الاجتراح والكشف، واستدعاء الدهشة من غربتها الطويلة!

من علي العندل إلى أحمد راشد ثاني، وجمعة الفيروز، أصدقاء القدرة على وضع عالمهم على رأس إبرة، لم يكفَّ أولئك عن المحاولة وكذلك سواهم؛ لأنهم لا يريدون الكفَّ عن الحياة.

شكراً عبدالله السبب، لوفائك الذي توزِّع حصصه كل الوقت على الأصدقاء الحاضرين، وأولئك الذين صاروا مرتهَنين لما نظنُّه غياباً.

العدد 4536 - الجمعة 06 فبراير 2015م الموافق 16 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً