للبحرين في قلوب اللبنانيين، شعراء وأدباء وأهل فكر وقلم وسياسة، مكانة تستلفت النظر وتسترعي الانتباه، وحين زار فيلسوف الفريكة وأديبها أمين الريحاني البحرين مطلع القرن العشرين في إطار رحلته في أنحاء الجزيرة العربية وعربستان والعراق، كان يظنها معبراً إلى الإحساء وجزيرة صغيرة حقيرة يأوي إليها الصيادون، فإذا به يعترف بجهله منذ اللحظة التي وطئت فيها قدماه أرض الجزيرة حسبما يسجل في «ملوك العرب»، معترفاً بقوله: «ما أخطات الظن مرةً ببلاد عربية مثل خطأي بالبحرين. وما دهشت في قطر من الأقطار التي زرتها دهشتي أول يوم في هذه الجزيرة، ولا غرو فالجهل يُجسم الدهشات».
احتضنت هذه البلاد ذكريات عدد من رجال الفكر والأدب ممن زاروا البلاد وكتبوا عنها خواطرهم وانطباعاتهم، بدءًا بالريحاني ومروراً بالشيخ محمد جواد مغنية والإمام موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشاعر نزار قباني - اللبناني النشأة والهوى -وسمير عطا الله وآخرون تطول بهم القائمة.
ومن هؤلاء كان السيد محسن الأمين (ت 1952)، الذي وإن لم يزر البحرين، إلا أنه ترك عنها أجمل ما يمكن أن يترك مؤرخ وأديب وشاعر. فلقد شغلت البحرين حيّزاً من عقل واهتمام هذا المصلح الإسلامي الكبير، وانعكس اهتمامه بهذه البقعة الصغيرة من العالم على تراثه العلمي، وعلى الخصوص كتابه الضخم «أعيان الشيعة» ذو الخمسة عشر مجلّداً، وقد أودع الأمين فيه سير العشرات –إن لم نقل المئات - من علماء وشعراء وأدباء البحرين، ممن عدّهم من كبار الأعيان البالغ عددهم 10877 (عشرة آلاف وثمانمئة وسبعة وسبعين) علماً من أعلام الفكر والأدب والعلوم المختلفة.
وقد ضمّن السيد الأمين موسوعته توثيقاً أميناً لحياة العلماء والمتكلمين، والفقهاء والمحدثين والمؤرخين، والنسابين والجغرافيين والمنطقيين والأطباء والنحويين والشعراء والأدباء والمصنّفين لفنون الإسلام في كل عصر. والأمين بهذا الأثر الخالد وبهذه الموسوعة النفيسة، وضع نفسه في مصاف كبار مؤرخي الإسلام أمثال ابن عساكر وياقوت الحموي وابن خلكان.
لقد أولى الأمين البحرين اهتمامه انطلاقاً من ثلاثة دوافع أساسية:
الدافع الأول: ما يرتبط بالمركزية العقائدية والدينية للبحرين؛ ذلك أن إيمان أهل البحرين ما «هو إلا امتداد لتاريخها، فلقد كان هذا البلد، ومازال المنبت الخصب لكبار العلماء، والمعين العذب الذي لا ينضب من الحس الديني، فلقد أسلم أهله للنبي (ص) وأذعنوا للحق طوعاً بالمكاتبة» كما تقول كتب التاريخ.
الدافع الثاني: يستند إلى ما عثر عليه الأمين من تراث علمي أغلبه مخطوطٌ في مكتبات العراق وإيران، بما فيها مكتبات العراق الخاصة، ويتصل بعلماء البحرين بما يجعل من الإشادة به والتنويه بأهميته مسئولية أخلاقية وفرضاً علمياً يجدر بالمؤرخ الالتزام به.
أما الدافع الثالث: فيرتكز على ثروة الخبرة العلمية والشخصية الواسعة للسيد الأمين طوال أيام تحصيله ورحلاته العلمية في العراق وإيران ودمشق، من واقع المعايشة والاحتكاك المباشر برجال الفكر والأدب من أهل البحرين. وهذه الروافد جميعها شكلت منابع خصبة وأمدّت الأمين بمعين تاريخي واسع حول مكانة البحرين العلمية وأهميتها الثقافية.
استغرق هذا الكتاب من عمر السيد الأمين ثلاثين عاماً من البحث والتنقيب، وقد توفي المؤلف وليس من المطبوع إلا ما ينتهي به حرف «السين»، وظلت بقية التراجم ابتداءً من حرف «الشين» مسوّدات مشوشة فيها ترجمات غير مستوفاة وترجمات لم يكتب منها شيء.
وكان السيد الأمين وهو على فراش المرض وفي أيامه الأخيرة كثير الحسرة على عدم طباعة الكتاب كاملاً في حياته، وكان يخشى أن تعبث بمسوداته يد الأقدار فتذهب جهوده عبثاً كما يروي نجله حسن الأمين (ت 2002) الذي أكمل مسيرة والده واستكمل «الأعيان»، وألحقه بمستدركٍ صدر منه 9 مجلدات.
وبصرف النظر عن المؤاخذات النقدية التي قيلت في «الأعيان»، إلا أن الكتاب يُعدّ بحق من الأعمال التوثيقية الرائدة والجليلة في بابه، خصوصاً إذا ما أُخذ بنظر الاعتبار أنه عملٌ نهض به السيد الأمين بجهده الفردي، وفي ظل انعدام وسائل النسخ والطباعة، والمشقة التي يواجهها الباحث في الحصول على المصادر والكتب في بيئة بدائية كتلك التي كانت سائدةً في سنوات الربع الأول من القرن العشرين. وقد أخبرني المؤرخ الشيخ جعفر المهاجر أن السيد الأمين كان يتنقل من مكان لآخر حاملاً معه وسائل الكتابة القديمة ودفتراً وسراجاً فقط!
إن من يطّلع على سيرة الأمين لابد أن يقف مندهشاً أمام كثرة مؤلفاته التي تناولت سائر علوم عصره وثقافته، ولا غرو، فالرجل كان إلى جانب إرادته وعشقه للعلم، كان قد منحته المشيئة الإلهية عمراً مديداً، فقد عاش قرابة تسعين عاماً مطلعاً ومنقباً، وقد كتب الأمين نفسه عن هذا الأمر حين شرح كيف كان يضن بوقته إذ اعتبر العمر شرفاً يجب أن يُصان من الضياع، فقال: «لا شغل في جميع أيامنا سوى المطالعة والتأليف». وقد ناهز الأمين التسعين وبقي مكبّاً على العمل «ولم نزل وقد بلغنا السادسة والثمانين من عمرنا... مواظبين على التأليف والتصنيف».
شكراً سماحة السيد.. وشكرنا للبنان العز والإباء لا ينقضي.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4532 - الإثنين 02 فبراير 2015م الموافق 12 ربيع الثاني 1436هـ
مقال رائع
شكرًا جزيلا لك نتمنى ان نرى المزيد
مقالات تظهر حقيقة شعب البحرين وحضارته وتحضّره
شعب البحرين حضاري بالطبع منذ القدم والتذكير هو من اجل تكذيب العابثين بهذا التاريخ المضيء المنير النيّر
رااااائع
مقال مميز مسترسل غني يضاف لمقالاتك الفريدة
أضف الهوامش في المرات المقبلة
لانه مقال مرجعي
وننتظر المزيد
دائماً تتحفنا
دائماً تتحفنا بالمعلومات القيمة وما يرتبط بأرضنا،أرض العلم والعلماء
شكرا لمتابعتك صديقي
شكرا لمتابعتك صديقي.. ونسأل الله ان نكون عند حسن الظن
انت بهذه المقالات تحرق حمصة البعض
تراك قاعد تحرق حمصة البعض وتثير نار الاضغان في نفوسهم بذكرك لهذه الحقائق التي دأبوا في العمل على طمسها واخفائها
هذا مو ذنبي
هذا ليس ذنبي ان كان البعض مريض بالخصومة مع الحقيقة والتاريخ