تسعى معظم المؤسسات العقابية في الشرق ضمن الحدود التي نعرف، وقُدِّر لنا أن نكون من بين سكَّان تلك الحدود، إلى العبث بالذاكرة. ذاكرة السجين، المعتقل، الموقوف لديها. هنا يرتبط الأمر بالسجين السياسي، وسجين الرأي. كل معارض يرى إساءة للحياة وله، وللبشر عموماً، بالسياسات الراهنة التي تتحكَّم في مفاصل الحياة وتفاصيلها.
ليس العبث بالذاكرة وحده، هو الذي يحرص عليه القائمون على المؤسسات العقابية في الشرق الذي نعرف. إنه العبث بالمصير. بتحديد نهاياته، وإدخال السجين في أكثر من موت يومي، ليس بفعل الإهانات التي لا ضوابط لها فحسب؛ بل بتلك القدرة على استنزاف الجسد، وتركه حيّاً في الوقت نفسه. استنزافه بذلك التشفّي، بمحاولات اكتشاف مناطق جديدة ينفذ منها الألم، مع الحرص على أن تنال تلك الممارسات وقتها الكافي. كأن الإنسان تحت رقابة المؤسسات العقابية تلك مادة اختبار للموت لا للحياة.
في العقاب الذي يكاد يكون مُتفقاً عليه في المجهول والمعلوم أيضاً، يجد المواطن في الشرق الذي نعرف - للمرة الثالثة - مُرْتَهناً لصيغة حياة لا شيء يدل عليها. حياة منزوعة القيمة، وكأنه يحياها ليشهد موته المتكرر، والإهانات التي تمطر عليه كالحمم.
وعلينا هنا، أن نتوقف عند أطروحة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، في تأريخه لأنظمة المراقبة والعقاب؛ إذ يرى أن العقاب شكل من أشكال تجلّي السلطة. الظاهرة العقابية تتحوَّل مع مرور الوقت إلى شكل من أشكال السلطة والتعبير عنها. كأنه من دون العقاب لا سلطة يمكن لها أن تستتب، أو تثبت، أو تجذّر حضورها في الأوساط التي تهيمن عليها، والبشر الذين هم موضوع هيمنتها.
يربط فوكو بين درجة المعرفة بالعقاب، ودرجة معرفة الآليات التي توظّفه وتكرّسه.
وفي العمق والجرأة اللتين اشتغل من خلالهما فوكو حفْراً على ثلاثية: السجن، التعذيب والانضباط، أسّس لما يمكن تسميته بـ «أركيولوجيا العقاب»، بذلك التتبّع المُجهد والكاشف والمُعرِّي لما قبل وأثناء وما بعد الممارسة.
تناول بتلك الدرجة من الحساسية لا يمكن أن يحظى به فوكو لو كان جزءاً من الشرق الذي نعرف. لأن مثل ذلك التناول أساساً، فيه كشف وإدانة وتعرية لطبيعة الأنظمة التي ذهبت إلى أبعد من ممارسة العقاب، ليس على مستوى الحجز الذي يمكن أن يوفر انضباطاً بدرجة ما، ولو ضمن حدود المؤسسة، ولكن على مستوى تعجُّل نتائج العقاب، بالإمعان في التعذيب إلى درجةٍ لا تترك أدنى فرصة لمن مورس عليه التعذيب كي يكون مرتهناً لتلك المؤسسة ونظام عقابها بالموت: القتل، باعتباره أكثر المراحل بشاعة في أنظمة المراقبة تلك.
لم تكن أنظمة المراقبة التي اشتغل عليها فوكو بتلك الدرجة من السادية. العيّنات التي تناولها لم تتجاوز السجناء الجنائيين، وفي بيئات لديها من التشريعات ما يحرِّم ويعاقب كل من يتجاوزها، وإن لم تخْلُ المؤسسات العقابية هناك من شكل من أشكال التجاوز.
ماذا لو قُدِّر لفوكو الاشتغال على المؤسسات العقابية في الشرق، وضمن عيِّنات سجناء الرأي؟ ما هي المحصِّلات التي سيخرج بها، وهل سيكون اشتغالاً على الأنظمة التي أوجدت تلك النوعية من مؤسسات العقاب، أم اشتغالاً على أطراف وموضوع تلك المؤسسات؟ تساؤلات ربما لا تطرق باب الحاجة إلى فيلسوف وسوسيولوجي مشرقي مثل فوكو، بقدر ما تبحث عمّن يقاربه في أعمال روائية ترصد مؤسسات العقاب تلك وموضوعها من ضحايا. ذلك ضمن وهْم هامش التحرك، وحرية التعبير، التي لا نرى لها أثراً.
في الحديث عن الأعمال والآثار الروائية، ستظل عاجزة ومتأخرة عن القبض على تلك الموضوعة بعيداً عن مساحات من الوصف المكرور والممل. ما بعد تلك الممارسات، وما يُراد التأسيس بها ومن خلالها.
الممارسات في المؤسسات العقابية في الشرق الذي نعرف سابقة بمراحل طويلة، ويصبح اللحاق بها؛ أو الكشف عن جانب منها لا يقدم الصورة الحقيقية والمهولة عنها؛ سواء من خلال الدراسات السوسيولوجية - إن تحققت - أو اقتفاء ملامحها وشيء من أثرها من خلال الرواية خصوصاً.
لا يوجد روائي عربي مهما أنجز من أعمال فارقة، ولها حضورها عربياً، وشيء من الامتداد خارج الدائرة العربية، يستطيع الادّعاء، مجرد الادّعاء، بأنه استطاع أن يتاخم حالات العقاب والمراقبة في المؤسسات تلك. ما يحدث هناك يتجاوز قدرة المخيلة البشرية على الوقوف عنده أو محاولة الاقتراب من الأدنى من حدوده. نحن إزاء سلطات لا تتيقن من وجودها وحضورها إلا بمزيد من الإمعان في ذلك العقاب، ولو أدى بها إلى الوصول به إلى مراحله النهائية بانتزاع الحياة ببطء هو بمثابة أكثر من قتل وموت.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4531 - الأحد 01 فبراير 2015م الموافق 11 ربيع الثاني 1436هـ
العقاب
ليس من الانصاف معاقبة الجاني بحجم اكبر من الذي اقترفه تشفيا كما يحدث في يعض الدول