يتابع الملايين كل عام الاحتفالات المبهرة برأس السنة الميلادية، عبر محطات التلفزة، بدءًا من سيدني وطوكيو ودبي، إلى باريس ولندن وموسكو وغيرها من المدن الأوروبية، ثم عبر المحيط الأطلسي إلى نيويورك وسان فرانسيسكو وغيرها من المدن في الأميركيتين. واستغرب الكثيرون من كثرة الأموال التي أنفقت على هذه الاستعراضات، كما استغربوا احتشاد المئات في ساحات الاحتفالات على امتداد العالم، وهل هناك ما يستحق الابتهاج والفرحة والأمل.
الحقيقة أن مثل هذه الاحتفالات تمثل طقساً عالمياً منذ منتصف القرن الثامن عشر، حيث يتم الاحتفال بها حتى في أحلك الظروف، وحتى عند احتدام الحروب، حيث يتم التوصل إلى هدنة بين المتحاربين، لاقتناص ساعات الأمن والفرح والبهجة، حتى في الخنادق الأمامية.
وكثيرون يستغربون مظاهر الفرح والاندفاع المحموم للسفر إلى جهات عدة داخل الوطن أو الإقليم أو العالم، وعن الاستعدادات لحجز أماكن للسهر في الصالات والمطاعم والمقاهي ودفع مبالغ كبيرة لقضاء ليلة رأس السنة، سواءً كانت سهرات صاخبة أو عائلية هادئة. ولا ننسى تفصيل الملابس الجديدة وشراء الهدايا، وأعمال الزينة للمتاجر والمنازل والفنادق، والشوارع وتلألؤ الأضواء.
إذا ما رجعنا إلى العام 2014، فهو بالطبع العام الأكثر قتامةً في تاريخ العرب المعاصر. الحروب الداخلية في ليبيا واليمن وسورية والعراق، اتخذت طابعاً وحشياً لا سابق له، ذهب ضحيته المدنيون بالأساس، وقد تجاوز ضحاياه مئة ألف، عدا مئات الألوف من الجرحى وملايين المهجرين، ودمار لا سابق، بل وتدمير معالم أثرية نادرة من كنائس ومساجد ومعابد وقصور.
لقد وصل الجنون في ليبيا إلى تدمير المنشآت النفطية، مشعلاً حرائق مدمرة، وبلغت الوحشية قيام مقاتلي «داعش» بذبح الأسرى والمدنيين في طقس مرعب لا سابق له في التاريخ. كما أن قيام «داعش» بإبادة أو تهجير من يعتبرونهم كفاراً من المسلمين وغير المسلمين وسبي نسائهم يعيدنا إلى عصور الظلام.
وحتى خارج بلدان الاحتراب الأربعة، فإن هناك اقتتالاً كما هو الحال في مصر ولبنان وفلسطين وباقي بلدان العرب، وباستثناء المغرب وتونس، تشهد عمليات قتل وانتهاكات غير مسبوقة لحقوق الإنسان، وقمعاً للمواطنين، ومصادرة للحريات في حملة محمومة ومنسقة رسمياً، لاستئصال براعم الربيع العربي، وإطفاء جذوة حراك الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية التي انطلقت إثر انتحار محمد البوعزيزي يأساً في مدينته التونسية الصغيرة المهمّشة، والتي اجتاحت الوطن العربي من المحيط إلى الخليج.
موجة الهوس والوحشية هذه لم تقصر على الوطن العربي، بل امتدت من قبل التنظيمات التكفيرية الإسلاموية إلى باكستان وأفغانستان ونيجيريا وجوارها، بل إن شظاياها وصلت إلى مختلف بلدان العالم من استراليا إلى الولايات المتحدة وما بينهما، حيث أضحت شبكات المنظمات التكفيرية ذات امتداد عالمي. وما ينذر بالخطر هو بروز تنظيمات عنصرية معادية للإسلام في هذه البلدان.
على الجبهة الاقتصادية، الأوضاع سيئة أيضاً، وطالت مئات الملايين، الذين ألقي بهم إلى هوة البطالة والفقر والتسول، في ظاهرة عولمة الفقر والإفلاس كنتيجة للعولمة الرأسمالية المتوحشة. وتكتسب هذه الظاهرة خطورة أكبر في البلدان العربية، مع انهيار أسعار النفط التي تشكل مداخيله بين 85 إلى 95 في المئة، وحيث يشكل النفط القطاع الاقتصادي القائد في بلدان الخليج والجزائر وليبيا، وله أهمية كبيرة في سورية واليمن ومصر.
إذاً فإن هبوط أسعار النفط إلى النصف تقريباً، واحتمال استمرار ذلك لسنوات، سيترتب عليه ليس فقط تراجع اقتصادات الدول العربية النفطية فقط بل تراجع الاقتصادات العربية بشكل عام بسبب ترابط هذه الاقتصادات؛ والمساعدات الكبيرة التي تقدّمها دول الخليج إلى عدد من الدول العربية وتدفق استثماراتها إليها عامة، وكذلك استقبالها للعمالة من بعض البلدان، وتقلص وارداتها وسيّاحها وغير ذلك.
في ضوء ذلك، فإن العام 2015 لا يبشر بالخير ولا ينبئ بتحسن الأحوال، بل ينبئ بمزيدٍ من التدهور العربي، وخصوصاً في ظل غياب توافق دولي، فلماذا إذاً الدعوة للفرح والأمل؟
لكننا لا نملك إلا الأمل والعمل، الأمل لأن الشعب العربي في مختلف البلدان وبدرجات متفاوتة قد عبر حاجز الخوف، وأزاح ستار التجهيل، واختبر النضال في الساحات ولم يعد للأنظمة العربية تلك الهيبة السابقة، حيث كانت تحكم بالقسر، ولم تعد أساليب الماضي تنفع مع شعوب تتطلع إلى غد أفضل.
الأنظمة وحواريوها تريد تيئيس الشعوب وإحباطها، وإغراقها في الأحزان والقنوط. لذا يجب على هذه الشعوب أن تقابل ذلك بإعلان الفرح والتعبير عنه والارتفاع على الجروح والمعاناة وإحياء ذكرى من ناضلوا من أجل الحرية والكرامة ومواساة أهاليهم.
عجلة الزمن لن ترجع إلى الوراء، وتطلعات الشعوب العربية للحرية والكرامة لم تمت. وها هي تونس تقطف ثمار ثورتها وتقدّم نموذجاً لشعب محل افتخار للشعوب، وبلد شامخ رغم صغره وإمكانياته المحدودة. إنها الكرامة التي افتقدتها الشعوب العربية منذ زمن بعيد.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 4530 - السبت 31 يناير 2015م الموافق 10 ربيع الثاني 1436هـ