ارتباطاً بالمقال الذي نشر في هذه الزاوية قبل أسبوعين، أبدأ من حيث انتهيت؛ إذ الوفرة المادية لا تصنع - دائماً - إبداعاً مدهشاً؛ قد تصنع المصطنع والهش من ذلك الإبداع؛ ما لم يتم توجيه وتسيير تلك الموارد ضمن خطط ومسارات وتوظيف متزن وحصيف.
الإمارات نجحت في ذلك؛ على الأقل منذ منتصف الثمانينيات ومطلع الألفية الجديدة وحتى الآن. استثمرت في الإنسان. وهو استثمار آتى أكله، وباتت الأصوات الإبداعية الإماراتية اليوم ذات حضور جميل ومتنوع في الكثير من الفعاليات التي تمتلئ بها أجندات الدول.
وبالعودة إلى الساحة هنا، كانت الصورة تتجلّى أكثر وأكثر. لا مشكلة في الوقوف على صورة ذلك الإبداع من حيث تنوُّعه وصلابته وصيَغه المغايرة، مقارنة بدول المنطقة. المشكلة كانت في تلك الفَجَوَات، والبرازخ التي تتعدّد وتتناسل يوماً بعد يوم. الفجوة بين الأخلاقيات التي لا يخلو منها عمل إبداعي، في توجهه إلى الإنسان (القارئ) وبين بعض الذين يتعاطون مع ذلك العمل؛ كي لا ندخل في حال من التعميم، وهم في معزل عن تلك الأخلاقيات بقدرتهم التي لا تنقطع عن فتح الفَجَوَات، وتوسيع الشروخ، وتغذية الاضطراب ورعايته وتعهُّده!
يمكن أن تبرز صور التشظية في العلاقات بالاندفاع نحو تدمير ما استقام منها ضمن ذلك الوسط، والقدرات العجيبة لدى بعضهم على التشويش والتعتيم والتسخيف أيضاً!
وهناك موهبة في القدرة على الخروج والتعامل والتعاطي مع من حولهم، من زملاء الكتابة بأكثر من وجه ونفس وروح. نحن أمام حالات متعدِّدة لشخص واحد أحياناً! حالات تقترب من الانفصام في الشخصية.
في السنوات التي كان الإنسان هو موضوع الاستثمار الرئيس في البحرين، كانت رائدة وسبَّاقة في معظم المجالات. الإنسان هو الذي يصنع المعجزة؛ لا الأموال، ولا الخطط ولا الخبراء ولا الموقع الجغرافي. الإنسان هو محور وعماد كل ذلك، وأي كلام خارج ذلك التصوُّر لا يعدو كونه تهويمات، ونوماً على أمجاد خلت، وإنجازات اندثرت، ومن الطبيعي أن تخلو وتندثر، حين يخلو ويندثر حضور الإنسان، وتهمَّش أهميته، ويُرمى به إلى مجاهل الهوامش!
وبعد أن تمَّت تشظية المكونات فيه، واصطناع الفزَّاعات، كان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على مجمل الحياة، ويمس كل شيء، ولن يكون الأدب والإبداع بعيداً عن ذلك التأثر. جاءت المحنة التي ابتلينا بها جميعاً، لتعمّق تلك الفَجَوَات والشروخ، وهذه المرة ضمن تصنيفات مذهبية ودينية ومناطقية، وبرعاية لا تخفى على أحد. بات المشهد الثقافي في مساحة كبيرة منه مركَّباً؛ فعلاوة على الأمراض التي ظللنا نتعامل معها باعتبارها حالات طبيعية لأفراد لا يجدون انسجامهم إلا معها، نواجه اليوم تقسيم المبدعين إلى معسكرين، معسكر في اصطفافه مع من يملك القوة والمال والهيمنة، وآخر وجد إنسانيته، وموقفه النموذجي في أن يكون مع الإنسان وقضيته والوطن الذي يجمع ولا يفرّق، ويتيح أرضية مشتركة للإنسان فيه كي يطلق طاقاته وإمكاناته وضمن محصّلة نهائية: في ما يجمع.
تلك المواهب في بث الفَجَوَات، وتوسيع الشروخ، وتغذية الاضطراب يجب ألاَّ يُنظَر إليها على أنها على هامش العملية الإبداعية؛ بل هي في القلب منها، ولذلك انعكاساته في التمهيد لاصطفافات ستتجاوز الانتماء لمدرسة فنية هنا، وشعرية هناك، وروائية هنالك؛ إذ بعد سنوات من محاولة الاقتراب والنظر إلى الساحة هنا منذ العام 1999، سيكون أكثر المؤهلين لممارسة أدوار قذرة وشيطانية في لعبة الاصطفاف والإيمان بـ «المؤامرة» أولئك الذين رعوا وتعهّدوا الحالات المرَضية تلك.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4529 - الجمعة 30 يناير 2015م الموافق 09 ربيع الثاني 1436هـ
مقال في قمة الروعة ويكشف عن الواقع الذي نعيشه
شكراً أستاذي ويا ليت أحد يتقرب للحقيقة