يقدم لنا التاريخ مقارنات مفيدة ودروساً بليغة. ففي فرنسا العام 1894حُوكم ضابط يهودي في الجيش الفرنسي يدعى دريفوس، اتهم بالخيانة وبتقديم معلومات سرية إلى الألمان. وأدت تلك المحاكمة إلى تعميم تهم الخيانة في صفوف الرأي العام الفرنسي تجاه اليهود الفرنسيين. في تلك الحادثة، كان اتهام دريفوس بسبب ديانته اليهودية، ولكن معلومات عن براءته سمحت بإعادة محاكمته وتثبيت براءته بعد خمس سنوات قضاها في السجن، فقد تبين أن ضابطاً فرنسياً لم يكن يهودياً هو الذي قدّم المعلومات للألمان. في هذه الحادثة الشهيرة استنتج ثيودور هرتزل، المنسجم مع أوروبيته ونمسويته، والذي حضر المحاكمة بصفته الصحافية، أن العنصرية والعداء للسامية سيستمران. هذه الحادثة أسست لأفكار هرتزل الصهيونية ولكتابه الشهير «الدولة اليهودية»، المنشور في العام 1896. في المقابل، أسس الهجوم المؤسف على مجلة «شارلي إيبدو» إلى عنفٍ لفظي وفضاءٍ من الكراهية ضد المسلمين في العالم الغربي والأوروبي خصوصاً. هذه حوادث عنف بحق مدنيين تقوم بها أقلية من الأفراد الغاضبين، لكنها تطلق في اليوم التالي مخزوناً متدفقاً من العنصرية والتعميم على مسلمين لا علاقة لهم بالعنف.
في جميع الحالات، عندما يهاجم الغرب قرى ومدناً ومواقع في العراق وسورية وأفغانستان أو في اليمن وغيره، فمعظم القتلى يكونون أبرياء لا علاقة لهم بالحدث، وهذا ينطبق أيضاً على قتلى العمليات المسلحة في مدن الغرب. لقد أدت حادثة دريفوس بهرتزل إلى فكرة إنشاء الدولة اليهودية، فإلى ماذا ستؤدي هذه الحوادث التي تكثف من حجم الممارسات العنصرية بحق المسلمين؟
إن العنصرية هي الأخطر، بصفتها فرزاً وعزلاً بين الناس على أسس بيولوجية وثقافية كالدين واللون، تركز على المناطق والسكن والإنتقال وذلك كتمهيد لسياسات تحدد وتحرّم وتجرّم. لقد استخدمت العنصرية لارتكاب بعض أبشع الانتهاكات في التاريخ. والعنصرية في الحالة الديمقراطية الغربية تقع خارج نطاق التغطية بصفتها طريقة لفرز فئات لا علاقة لها بأية أعمال تنتهك القوانين، لكنها تجد أنها فجأةً مهدّدة في حقوقها. وللغرب تاريخ طويل مع حالات الاستثناء كتلك التي شملت اليهود والملونين والهنود الحمر أو المستعمرات أو الفلسطينيين. في ظل «الإستثناء» وهو سلوك غير ديمقراطي، تشمل الديمقراطية فئات بينما تحرم من الحقوق فئات أخرى.
لقد استمرت الحرب ضد الإرهاب منذ 14 عاماً بلا توقف، وهي حالة استثناء تضع أمماً إسلامية بكاملها ضمن قانون الاستثناء. في هذه الحرب يسقط قتلى من المدنيين العرب والمسلمين. الأخطر أن هذه الحرب تقع خارج نطاق التغطية ورقابة الرأي العام، إذ تقوم بها قوات خاصة محمولة كما حصل مع الكثير من الاغتيالات، ومنها اغتيال أسامة بن لادن. هذه القوات لديها الحق بأن تقرّر من يعيش ومن يموت، وهي تلاحق وفق الشبهة والإتهام. وهذه حرب تخاض أيضاً عن بعد عبر طائرات بلا طيار وقاذفات بعيدة.
في هذه الحرب غير المرئية، يموت الكثير من الأبرياء مما يخلق الأرضية لروح الانتقام. ليس غريباً أن تكون حرب العراق العام 2003 والتعذيب في سجن أبوغريب الذي فُضح مدخلاً لراديكالية الأخوين كواشي. إن الحروب التي تشن على مناطق عربية إسلامية تغذّي الكراهية كما العنصرية على كل صعيد.
لم تخرج مجلة «شارلي إيبدو»، بخاصة منذ أحداث 11 سبتمبر/ أيلول، عن حيز استهداف المسلمين والتخويف منهم وممارسة العنصرية ضدهم. إن تركيز المجلة على المسلمين لأنهم جماعة مهمّشة ومضطّهَدَة تعيش فئات رئيسة منها في أوروبا في أسفل الهرم الاقتصادي الاجتماعي. وقد جاء هؤلاء المسلمون من مجتمعات تعرّضت لهزائم متلاحقة واستعمار واحتلال وحروب ودول مفكّكة.
الغرب ليس بريئاً من قضية الإرهاب ولا «إسرائيل» بريئة من ممارسته، ولا السياسة الأميركية المؤيّدة لـ «إسرائيل» والمتعمقة في دعمها على حساب العرب والفلسطينيين والمسلمين بريئة. العنف الصادر عن شبان مسلمين وعرب هو تعبيرٌ عن مشكلة أعمق تعكس التهميش والضغط الغربي والتوسع الاسرائيلي.
هذا العنف الصادر عن شبان مسلمين لا يختلف في شكله عن عنف مماثل انتشر في العالم في ظروف مشابهة. أذكّر هنا بالعنف في أميركا اللاتينية وبالحروب في جنوب شرق آسيا، وعنف منظمة «بادر ماينهوف» الألمانية و»الجيش الأحمر» الياباني و»الألوية الحمراء» الإيطالية و«الجيش الجمهوري الإيرلندي» في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.
إن أكبر عنف مرّ على الكوكب واستهدف مدنيين لم يكن إسلامياً ولا عربياً، بل كان أوروبياً وغربياً عبّر عن نفسه في الحربين العالميتين الأولى والثانية؛ وعبّر عن نفسه في حروب الاستعمار الدموية؛ كما عبّر عن نفسه في إلقاء القنبلة النووية على اليابان. لكن كلاً من اليابان وألمانيا بعد هزيمتيهما، أُعيد بناؤهما لصالح التسامح والتواصل. وفي بداية الحرب على الإرهاب لتغيير النظام العراقي العام 2002، تم التأكيد من قبل القوى التي قادت الحرب في إدارة الرئيس السابق جورج بوش أن العراق سيكون اليابان الثاني. لكن الولايات المتحدة التي غيّرت نظام صدام وقبله نظام «طالبان»، لم تطبّق ما تعلّمته من تجربة بناء الدولة في اليابان. فالظروف مختلفة حتماً والشعوب مختلفة، لكن وجود «إسرائيل» في الخلفية لم يسمح بسياسة بناء إيجابية، ففي اليابان وفي أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أميركا تمثل نفسها، أما في الشرق الأوسط، فهي تمثل نفسها جزئياً كما تمثل «إسرائيل»، فـ «إسرائيل» ومصالحها ونفوذها تكون دائماً في الخلفية. في العراق تمّ تدمير الدولة، وفي اليابان تم بناؤها.
هذا لا يعني أن التعاون غير ممكن، لكن هناك خوفاً من الإسلام السياسي، وتخوفاً من الغالبيات الإسلامية لأن قوتها كغالبية أكانت شيعية كما في إيران أم سنّية كما في تركيا وغيرها، قد تسهم في إطلاق طاقات مستقلة وأمم ناهضة. وليس غريباً أن نتانياهو ذاهبٌ بحزم إلى العاصمة الأميركية ليطرح في الكونغرس الأميركي في مارس/ آذار المقبل خطاب حربٍ ضد إيران. فالموقف من نشوء قوة إقليمية غير «إسرائيل» سواءً كانت تركية أم عربية سيبقى عنصر تحفيز للعداء.
من المفيد أن نعرف أن العنف الصادر عن مسلمين وعرب له أسبابه وعمقه السياسي والاجتماعي، وهو ليس «نتاج جنون» بل «نتاج غضب عميق» و«سياسات عزل وعنصرية»، تجعل الضحايا مرتبكين فكرياً في ردود أفعالهم. ومن المفيد أن نعلم أن أسباب هذا العنف واضحة، لكن هناك قوى عديدة لا تريد لهذه الأسباب أن تتضح أمام الرأي العام العالمي، أو أن تتناولها وسائل الإعلام الأهم في العالم.
إن العنف ضد المدنيين الصادر من قبل أطراف إسلامية وعربية يتطلب تعاملاً حقيقياً وجاداً مع عنف الدول الكبرى ضد المدنيين العرب والمسلمين. هذا العامل يلعب دوره في العنف الراهن. من جهةٍ أخرى لابد من موقف واضح من الإصلاح العربي المرتبط بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بل والثقافية لفئات واسعة من الشباب العربي المهمّش، وهذا مصدر آخر للراديكالية والعنف.
وفي كل هذا المشهد لن يتوقف العنف من دون توجيه الاتهام للرؤى والسياسات الاستعمارية التي تعبث في الإقليم والمتحالفة مع الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي الذي يزداد تمدداً وعدوانيةً وتغولاً وعنصرية.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4528 - الخميس 29 يناير 2015م الموافق 08 ربيع الثاني 1436هـ