منذ منتصف سبعينات القرن الماضي وملتقى دافوس الاقتصادي يجمع سنوياً حوالي ألفين وخمسمئة من رجالات الاقتصاد والمال والسياسة والإعلام، ليستمعوا لخطب ساسة من أمثال رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير الذي كان يلقي المواعظ الأخلاقية بينما كانت يداه ملطختين بدماء أطفال العراق؛ ومن أمثال الأميركية كوندوليزا رايس التي كانت تدافع إلى حد الجنون عن سياسات بوش الابن الخرقاء في مهاجمة الآخرين واحتلال بلدانهم وتجويع أطفالهم باسم حملات مكافحة الإرهاب الصليبية؛ ومن أمثال قادة العالم الثالث الفاسدين الناهبين لثروات أوطانهم، أو ليستمعوا لرؤساء بنوك وشركات عابرة للقارات من المتخمين بالمال وعيش الرفاهية والبطر والمدافعين عن نظام رأسمالي عولمي يمارس الفحش في استقطاب الثروات للأغنياء فيزدادوا غنى وفي نهب الفقراء ليزدادوا فقراً.
ملتقى دافوس يريد أن يطمئن ضحايا الامتيازات بأن الجلادين معنيون بآهات وأسقام ضحاياهم، بدليل أنهم يجتمعون سنوياً لبحث كيفية الخروج من الأزمات المالية بشرط ألا تمس أسس الليبرالية الجديدة المتوحشة التي لا تعترف إلا بمنطق السوق، وليس غير السوق. وبدليل مناداتهم بحماية البيئة شرط ألا يؤدّي ذلك إلى المساس بأسس هيمنة الشركات العالمية الكبرى على ثروات بلدان العالم الثالث الفقير. وبدليل أنهم يبحثون قضايا اللامساواة والبطالة بين الشباب والنساء ومرض «إيبولا»... إلخ من قائمة طويلة لمحن هذا العالم التي تتفجر كالبراكين سنة بعد سنة.
كل تلك الخطابات والمناقشات والصفقات والبيانات، التي تشغل العالم لمدة ثلاثة أيام من كل عام، والأمور تزداد سوءاً. فلايزال بليون ونصف البليون من البشر لا يزيد دخل الفرد منهم على دولار وربع الدولار في اليوم، ولايزال مئة وثلاثون مليوناً من الأطفال يضطرهم جوع أهاليهم إلى العمل في المزارع والمصانع والحرمان من التعليم. ولايزال واحد في المئة من سكان العالم يملكون خمسين في المئة من ثروات هذا العالم.
ولاتزال البيئة تتدهور، ولا تزال الدول تزداد غوصاً في المديونيات التي في النهاية لا يحمل وزرها إلا الفقراء. ولايزال العالم يخرج من أزمة مالية بعد جهد جهيد ليدخل في أزمة جديدة بسبب انقلاب اقتصاده، بتوجيهات المدارس الاقتصادية «النيوليبرالية» في عواصم الغرب الكبرى، من اقتصاد إنتاجي إلى اقتصاد انتهازي يعتمد على طباعة التريليونات من الأوراق المالية من قبل البنوك المركزية، ويعتمد على أنظمة إقراض جائرة لا تعرف الانضباط ولا الرحمة، ويعتمد على مغامرات مضاربات لا دخل لها بالواقع.
من هنا لا يستطيع الإنسان إلا أن يصل إلى نتيجة مفادها أن ملتقى دافوس الاقتصادي، الذي أنهى اجتماعه السنوي منذ بضعة أيام، ليس إلاً مؤسسة، تنضم إلى قائمة طويلة من المؤسسات المشابهة لها، معنية في جوهرها بإيجاد مخارج تنقذ الذين يصرون على توريط هذا العالم في أزمات اقتصادية وبيئية وسياسية بسبب تمسكهم بالإبقاء على أفكار وممارسات اقتصادية ملآى بالثغرات والخداع، تدعمها آلة إعلامية متواطئة كاذبة، حتى ولو كان من بعد ذلك الطوفان.
ما يحتاج إليه العالم الآن هو فكر اقتصادي جديد يعتمد على ممارسات وقيم إنسانية عادلة تردع الفاسدين الأنانيين الطماعين، وليس فقط، كما تدعو إليه الدوائر الرأسمالية العولمية المتحكمة، إلى مزيد من الشفافية والأنظمة الترقيعية المنتقاة بإتقانٍ لإطالة أمد عمر نوع من الرأسمالية لا تمت بأية صلة حتى بالأسس التي قامت عليها الرأسمالية الكلاسيكية.
إنه فكر اقتصادي جديد لا يشعر بالحرج أو الخجل من تبني بعض ما نادى به الفكر الاشتراكي في الماضي، من مثل ضرورة تدخل سلطات الدولة من خلال نوع معقول من التخطيط المركزي، ومن خلال أنظمة مانعة للشطط والمغامرات المعتوهة؛ ومن مثل ضرورة امتلاك الدولة لمؤسسات اقتصادية مفصلية لا تترك للمال الخاص لكي يمتلكها ويتحكم من خلالها برقاب العباد؛ ومن مثل التدخل لحماية المؤسسات والأسواق المحلية لحماية صغار المستثمرين من هيمنة المؤسسات العولمية الكبيرة؛ ومن مثل بناء دولة الحماية المجتمعية من خلال أنظمة التعليم العام والخدمات الصحية العامة ودعم النقابات ومؤازرة الفقراء والمهمّشين والإصرار على أنظمة تقاعد عادلة وعدم القبول بالمقولة الرأسمالية من أن البطالة هي شر لابد منه.
وفي جميع الأحوال فإن هكذا فكر وممارسة، لا يمكن أن يستقر إلا في أنظمة ديمقراطية عادلة، حيث للمجتمع المدني صوت قوي، وللمواطن حرية ونشاط حيوي، حيث لا مكان للإمتيازات تحت أي مسمى كان، حيث لا سلطة تعلو فوق سلطة القانون العادل الذي يضعه الناس لأنفسهم .
النضال من أجل إيقاف الجنون الرأسمالي النيوليبرالي العولمي الجائر من خلال القبول بضوابط اشتراكية إنسانية متوازنة ومعقولة، لإيجاد نظام اقتصادي إنساني عادل، يجب أن يكون أولوية الأولويات لقوى المجتمعات المدنية في العالم كله، وإلا فإن الطوفان قادم بسبب حساسيات طفولية تجاه كل الفكر الاشتراكي هي لا معنى لها، بل ومضرة إلى أبعد الحدود، وستغرق الجميع.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 4528 - الخميس 29 يناير 2015م الموافق 08 ربيع الثاني 1436هـ
احمد
مع الاسف هاد الحال موجود عندنا في البحرين عندما كنت في ندوه لمعهد البحرين للتنميه السياسيه كان الضيوف يتكلمون عن الشفافيه وعدم اقصاء الاخرين وعن القلم النزيه ولكن تعال الي الحقيقه وشوف بعض الجراءد عندنا سب وتخوين من فءهه ضد الاخرين ولاكن معروفه الديك ياذن ولاكن مايصلي
الحل
الحل لهادا العالم وخصوصا الاقتصاد اتباع احكام الله الي الناس بعيده عنه واتبعت ا....الي دمر البشريه بافعالهم الشيطانيه ولايرون الى مصالحهم والقضاء على الشعوووب الفقيرة هؤلاء استاد لايخافون الله ولايمؤمنون بالجنه والنار وعذاب الله انهم يحاربون الله الله اخلص الشعووب من ظلمهم وشكرا على هاده المقال
المشكلة في الإنسان نفسه
بما أن أطماع الإنسان هي السبب وراء المشكلة الاقتصادية والبيئية والسياسية فإن هذا المشكل لن يحل أبداً حتى مع وجود نظام ديمقراطي فهنالك منظمات وجماعات وأفراد يعملون على تطويع القوانين وبلورة الحياة وفق نمط يبقي الطبقة المتحكمة في اقتصاد العالم وفي كل شيء إلى مالا نهاية
إنما وجود الأنظمة والتطبيقات المبتكرة يمكن ان يخفف من حدة المشكلة