إبراهيم العريس @
قبل هذه الجريمة الجماعية المرعبة، عرفت هوليوود كل أنواع الجرائم الفردية: قتل بسبب التنافس، قتل بسبب الغيرة، قتل بالخطأ... ولكن مع جريمة شارون تيت ورفاقها، دخلت هوليوود عالم الإبادة، الذي كانت هي اعتادت أن تتحدث عنه على الشاشة، معتقدة بأنه لا يمكن أن يحصل في الواقع أبدا. لكن جنون «عائلة» تشارلز ما نشون، وتطلعات رب العائلة، قالت لهوليوود إن عليها أن ترتعب منذ الآن وصاعدا، لأن كل شيء ممكن في مصنع الأحلام. الأحلام التي تتحول أحيانا إلى كوابيس.
«إن عليك أن تحمل في فؤادك قدرة حقيقية على الحب لكي تتمكن من أن تفعل هذا بالناس». هذه العبارة التي تبدو في ظاهرها مفعمة بالحب والإنسانية، كانت واحدة من أكثر العبارات رعبا، حين نطقت بها المدعوة سوزان اتكينز في العام 1969، بالنسبة إلى عالم هوليوود الساحر. فالحال أنه بعدما انتشرت تلك العبارة، وعدد من العبارات والاعترافات الأخرى التي جاءت على لسان سوزان اتكينز، لم يكن أمام عالم هوليوود المخملي إلا أن يزداد رعبا. ولم يكن أمام أشهر أهل السينما إلا أن ينزووا مختبئين ويضاعفوا من الأجور التي يدفعونها إلى الحراس وكلابهم. ذلك أن سوزان اتكينز التي فاهت بكل ذلك وهي تبتسم ابتسامة الملائكة لم تكن سوى واحدة من خمسة أشخاص اعتقلتهم الشرطة بتهمة قتل مجموعة من أهل هوليوود ليلة الثامن من أغسطس/ آب من ذلك العام. والأدهى من هذا أن القتل أتى ذبحا في غالبه، وبدم بارد. وكان قتلا طقوسيا. أما الضحية الأولى فكانت شارون تيت، نجمة هوليوود الصاعدة، وزوجة المخرج النجم رومان بولانسكي، الحامل في شهرها التاسع. وشارون لم تكن وحدها الضحية في تلك الليلة المرعبة، كان هنا أيضا ضيوفها في الحفلة الحميمة التي كانت تقيمها. الضيوف الذين أتوا يسرون عنها وهي تنتظر عودة زوجها من عمله في أوروبا، وقد شعرت بالضجر.
حتى اليوم لا تزال تلك الجريمة واحدة من أرعب ما عرفته هوليوود في تاريخها. وذلك بالتحديد لأنها تبدو من أكثر جرائم ذلك الزمن مجانية، وحتى وإن كانت التفسيرات «المنطقية» تتالت بعد ذلك، مخففة من حال الغموض التي غلفت كل شيء. والسبب الأساسي للرعب كمن في أنها كانت الجريمة الجماعية الأولى التي تصيب عالم السينما، ناهيك بأنها أدت إلى إبادة أناس لاهين، لم يكن لأي منهم، من الناحية النظرية، عداوة مع أحد. ولا سيما منهم شارون تيت، تلك الفاتنة ذات الستة والشعرين عاما. والتي كان صعودها في عالم السينما الهوليوودية أشبه بحكاية سندريلا حقيقية. فإذا أضفنا إلى هذا أن سوزان اتكينز نفسها صرحت بكل جدية وهدوء حين كان رجال الشرطة يستجوبونها، بأن التالي على اللائحة كان سيكون فرانك سيناترا وأصحابه، ثم ريتشارد بورتون وإليزابيت تايلور، فإن هذا سيكفي لإداك المناخ الذي ولده ذلك كله في هوليوود، التي كانت اعتادت الجرائم الفردية وحكايات الغيرة والتنافس وما شابه، تاركة المجازر المرعبة للشاشة وحدها.
والحال أن المشهد الذي طالع الخادمة وينفريد تشابمان صبيحة اليوم التالي للجريمة، كان مرعبا وجديرا بأقسى أفلام الرعب. فهي إذ دخلت البيت الفخم المعزول الذي تقيم فيه شارون تيت في شارع سبيلو الراقي في هوليوود، في ذلك الصباح لتنظف ما خلفته السهرة، وجدت سيدتها مربوطة بحبل مع الحلاق سبرنغ، الذي كان عشيقها قبل زواجها من بولانسكي ثم صار صديق الطرفين، وقد مزقتهما طعنات خنجر عديدة، إضافة إلى رصاصة اخترقت قلب سبرنغ، كما وجدت ثلاث جثث أخرى تعود لبقية الضيوف الذين كانوا على العشاء عند السيدة الحامل: ابيغايل فولغر وفويتيك فريكوفسكي (صديق رومان بولنسكي) وستيفن بارنت (الذي وجد مقتولا في سيارته). أما الناجي الوحيد من المجزرة فكان الفتى ويليام غارتسون الذي اعتقل في اليوم الثاني بوصفه المشبوه الوحيد، لكنها سرعان ما أطلق سراحه، إذ تبين للشرطة استحالة أن يكون له ضلع في ذلك كله.
مهما يكن فإن الشرطة لم تتأخر في اكتشاف حقيقة ما حدث. إذ إن جريمة مشابهة حصلت في الوقت نفسه غير بعيد عن ذلك المكان، وراح ضحيتها هذه المرة ورجل ثوي يدعى لينو لابيانكا وزوجته، قادت الشرطة إلى «الطريق الصحيح». ذلك أن القتلة في حالة لابيانكا، لم يكونوا على عجلة من أمرهم، كما كان حالهم بالنسبة إلى ما حدث في منزل شارون تيت، لذلك راحوا يملأون البيت بكتابات مثل «حرب» التي كتبوها على بطن القتيل أو عبارة Helter Skelter التي وجدوها على البراد مكتوبة بالدم، ولما كانت هذه العبارة في الأصل اسم أغنية لفريق «البيتلز»... بدأت الخيوط تتراكم حتى وصلت الشرطة إلى المدعو تشارلز مانسون. وذلك عبر الربط بين أمرين: كون مانسون هذا جرب حظه في عالم الغناء أمام الدعو تيري ميلكر (ابن دوريس داي، الذي كان يملك وكالة لاستقطاب المواهب) وغنى تحديدا أغنية «البيتلز» تلك فصرفه ميلكر بالتي هي أحسن غير واجد لديه أية موهبة. هذا بالنسبة إلى الأمر الأول. أما الثاني فكان أن ميلكر نفسه كان يملك البيت الذي تقيم فيه، الآن، شارون تيت، وكان يقيم فيه.
لقد انطلقت الشرطة من هذين الأمرين. فاكتشفت القاتل. لكن المفاجأة كانت أن القتل نفسه، كان أكثر رعبا وتعقيدا من أن يكون مجرد انتقام لفشل موسيقى. والأدهى من هذا أن الشرطة اكتشفت في نهاية الأمر أن مانسون لم يكن هو القاتل. بل إن الذين قاموا بالمهمة خمسة من أفراد عصابته، أو «عائلته»: ثلاث إناث، وذكران هم تشارلز واستون، سوزان اتكينز، لسلي فان هوتن، باتريسيا كرنويكل وليندا قصابيان. لقد نفذ هؤلاء أوامر مانسون لا أكثر. وفي ذهنهم، حسب تعبير سوزان اتكينز أنهم إنما يفعلون ذلك حبا في الإنسانية، وضمن إطار طقوس يقومون بها. ولسنا في حاجة إلى التذكير بأن هذا النوع من العمل «الطقوسي» كان منتشرا في الولايات المتحدة في تلك الأيام، كوريث لنزعات هبية متطرفة، في وقت وجد الهبيون أنفسهم أمام طريق مسدود بعدما كانوا ينادون بالحب والموسيقى والتآخي بين البشر والعودة إلى الطبيعة. على أية حال، بالنسبة إلى سوزان اتكينز، التي كانت أكثر الجماعة جنونا وهدوءا كان القتل مجرد تعجيل في إعادة القتلى إلى حضن الطبيعة الأم، بعيدا عن المجون الذي يمارسونه في هذه الحياة الدنيا.
غير أن الأمر بالنسبة إلى زعيم العصابة تشارلز مانسون كان شيئا آخر تماما، كما سوف يتبين للشرطة. بمعنى أنه، هو، كان يستخدم سذاجة هبيبه لتحقيق مأرب، سيقولون هم، إنه لم يكن في حسبانهم. فمانسون، الذي سيوجد له سجل حافل في دفاتر الشرطة، كان منذ خرج من السجن في العام 1967، قد جمع من حوله عددا من الأتباع وشكل منهم عائلة هبية كانت تأتمر بأمره. وكان هو، عبر قراءة يومية للكتاب المقدس، وحب للموسيقى تحف به رغبة في أن يصبح مغنيا، كان يعمد إلى إقناع أتباعه بأنه «المسيح الجديد» الذي جاء ليخلص البشرية من شرورها. ولقد عاش مانسون مع أتباعه، وأغلبهم من النساء، عيشة تجوال بدوية حقيقية، يقتاتون مما يسرقونه من المحلات الكبرى، وينمون في أوساطهم كراهية للأغنياء، وخاصة لأهل هوليوود «وكل أنواع الفاسقين». ووسط ذلك كان مانسون قد كون لنفسه رأيا غريبا يقول إن الملونين، وخاصة السود، هم الذين يجب محاسبتهم على ما آل إليه العنصر الأبيض من انحطاط. وهي رأى أن السينما بأفلامها المضادة للعنصرية والمقدمة للسود، على أنهم مظلومون وطيبون، مسئولة عن ذلك كله.
وهكذا بالتدريج، وكما سيكشف التحقيق لاحقا، تبين لتشارلز مانسون أن خلاص العالم أنما هو خلاص العرق الأبيض. ولكن كيف؟
ببساطة، يجب أن تندلع حرب عرقية حقيقية بين البيض والسود. وهنا تفتق عقل مانسون المريض عن خطة وجدها منطقية: يدفع رجال ونساء عائلته إلى ارتكاب سلسلة جرائم وهو واثق من أن الشرطة، العنصرية بطبعها، وإذ تجد أن الضحايا دائما من البيض الأغنياء والمشهورين، سوف توجه الاتهام غالبا إلى السود، ولاسيما إلى جماعة «الفهود السود». وسيؤدي هذا إلى مذابح متعددة تشبه حربا عنصرية حقيقية، يخرج منها السود منتصرين. وعند ذلك تخرج «العائلة» وقد زاد عدد أفرادها بفعل الرعب المشترك، من مخابئها فتسيطر على الوضع وتبيد السود.
والحقيقة أن هذا التفكير لم تهتد إليه الشرطة بالاستنتاج، بل تبعا لاعترافات مانسون نفسه. وتبعا لهذه الاعترافات، إنما كان اختيار شارون تيت وأصحابها، مجرد صدفة، وربما لاعتقاد مانسون أن البيت الأنيق لا يزال يخص ذاك الذي منعه من إيصال مواهبه الفنية إلى الجمهور: تيري ميلكر.
أما هذه الاعترافات المذهلة، وأما مجانية الحدث نفسه، راحت هوليوود تغوص في رعبها، لكن ذلك الغوص لم يمنعها من بكاء تلك الطفلة المدللة والحسناء التي كانتها شارون تيت. فشارون كانت تعيش صعودا مدويا، ويبدو أن كل شيء في الحياة يبتسم لها، حين وقعت الواقعة.
وهكذا في الوقت الذي حكم فيه على مانسون بالسجن تسع مرات مدى الحياة، وحكم بالمؤبد على تابعيه، كانت هوليوود تتذكر المسيرة الرائعة والقصيرة، لتلك التي كانت آخر ما مثلته قبل حملها وابتعادها «مؤقتا» عن الشاشة، دورا أمام العملين أورسون ويلز وفيتوريو دي سيكا في فيلم «12+1». أما بداية شهرتها فكانت في العام 1965 حين مثلت دورا رئيسيا في فيلم «عين الشيطان» الذي صور في لندن، عن أحداث من المفترض أنها تدور في فرنسا. والغريب أن شارون تيت تموت في الفيلم، عن طريق عصابة من عبدة الشيطان تقوم طقوسهم على التضحية بالبشر قربانا للشيطان. لكن الأهم من هذا أنها في لندن، وخلال تلك الفترة تعرفت برومان بولانسكي، الذي كان في ذلك الحين واحدا من أكبر نجوم الإخراج في السينما العالمية. وكان بينهما حب من النظرة الأولى وتلاه الزواج. وراحت الصحف الودودة تجاه الثنائي تتحدث عن قصة الحب تلك. وصار رومان وشارون نجمي المجتمع. صحيح أنها لم تمثل كثيرا في أفلامه. ولكن السبب أن الطلب تكاثر عليها، بعدما صارت حديث الصحف، وبعدما كشفت عن مواهب حقيقية. وهكذا راح كل من الزوجين يعمل بجد، ليلتقيا بين الحين والآخر. ورومان الذي جعل لها بطولة فيلمه «الرقص مع الغيلان»، كان يريدها بطلة للفيلم الذي سيكون من أشهر وأفضل أفلامه «طفل روز ماري» لكنها كانت مشغولة بالتمثيل في فيلم «لا تموجوا» ثم خاصة في فيلم «وادي الدمى» الذي ثبت قدميها، عبر دور عميق سيكولوجيا، ينتهي حين تقف جنيفر نورث (اسم الدور الذي تقوم به شارون في الفيلم) لتقول: «أنا لست موهوبة» قبل أن تقدم على الانتحار. وسيظل هذا المشهد في أذهان كل الذين أحبوا شارون تيت وآلمهم مقتلها على تلك الطريقة.
ومع هذا يمكننا أن نتصور أن الأشد ألما كان رومان بولانسكي نفسه، هو الذي كان في أوروبا ليلة حدوث الجريمة، وسيظل طوال حياته - وحتى الآن - مطبوعا بهولها. بل إنه سيقول إنه إذ اختار مسرحية «ماكبث» لشكسبير موضوعا لأول فيلم يحققه بعد الجريمة، فما هذا إلا لامتلاء تلك المسرحية بالدماء والقتل «لقد شئت الغوص في الدم لعله ينقذني من كوابيسي في ذلك الحين». وحتى اليوم، وعلى رغم كل التقلبات التي عاشها، لا يزال رومان بولانسكي يعيش، كما يقول هو على الأقل، تحت صدمة ذلك الحدث المريع.
شخص أخر عاش تحت تلك الصدمة هو أم شارون تيت، السيدة دوريس، التي بدلا من الاختلاء إلى الحزن والذكريات، قررت أن تكون أكثر حسما. وهكذا، خلال العقود التالية جعلت همها الوحيد أن تتوجه إلى المحكمة في كل مرة يراد فيها إطلاق سراح واحد من قتلة ابنتها استنادا إلى كلامه و»أخلاقه « الحسنة في السجن، لتعترض. وتكون النتيجة دائما عدم إطلاق سراح القتلة، فالأم، في تلك المجزرة لم تفقد ابنتها فقط، بل حفيدها أيضا. فهو قتل في بطن أمه، وكان جنينا في الشهر الثامن والنصف وعلى وشك أن يولد ليحمل أسم بول رومان بولانسكي. لكنه دفن مع أمه الشابة، ضحية بريئة لجنون أذهل العالم في ذلك الحين ولايزال.
@مأخوذ من كتاب «حكايات صيفية»
العدد 2491 - الأربعاء 01 يوليو 2009م الموافق 08 رجب 1430هـ