بين أن تقول: قَتَلَ وقُتِلَ فرق كبير. الكلمة واحدة، ما خلا ضمَّة هنا، وكسرة هناك كي يتغيَّر كل شيء. هذا الأمر يمكن تطبيقه على ملايين الكلمات في لغتنا العربية، وفي كل واحدةٍ منها معنى يمكن أن يجعل شكلها مختلفاً كلما حَرَّكنا في مواضع حروفها.
في الصحافة الموجَّهة، الخاضعة لأنظمة مغلقة، يتم التلاعب بالكلمات على ذلك النحو. فالهدف، هو أن يكون الخصم قاتلاً لا مقتولاً حتى ولو كان هو الضحية الفعلية. فمعادلة «قَتَلَ/ قُتِلَ» تأتي فاعلةً هنا، وما هو على شاكلتها من مفردات يتم تكييفها.
لكن، هناك شكل آخر من الخداع اللغوي واللفظي يتم اتباعه في الصحافة المُوجَّهة، وهو تجميع كل تلك المفردات المقلوبة (كذباً) ووضعها في سياق مختلف للمعنى والتأويل، لصناعة رأي عام مصنوع يؤمن «تماماً» بأن المقتول هو القاتل، وأن الأخير هو المقتول ظلماً.
هناك نماذج كثيرة لأنظمة حكم كانت تنتهج تلك السياسة، بعضها أنظمة مغلقة كما أشرنا، لا تؤمن بالتغيير السياسي الحتمي، وأخرى عنصرية تمييزية كما كان في جنوب إفريقيا، وثالثة محتلة كما حصل في الجزائر عندما احتلها الفرنسيون، أو بريطانيا إبّان احتلالها للهند، وأيضاً اليوم حيث تجري وقائع مماثلة في فلسطين المحتلة.
ففي «إسرائيل» يتم توظيف هذا الأمر بطريقة مُحكَمَة وبشكل دائم. فألفَا قتيل من الفلسطينيين في غزة أثناء الحرب الأخيرة، يُمكن تجفيف دمائهم، بل وجعلهم هم القَتَلَة عبر كلمات مقلوبة في الإعلام الإسرائيلي أو الحليف معه، ما بين القاتل والمقتول، مدعومة بصور مستوطنين أطفالاً أو نساءً قُتِلَوا أو جُرحوا أو حتى مفزوعين في الملاجئ، مع عرض لصواريخ حماس الصغيرة، وهي مدفونة في التراب، كي لا يُرَى طولها الحقيقي.
كان الإعلام الإسرائيلي يصف عملياته العسكرية وكأنها معركة النورماندي، حيث يشير إلى التعامل مع «فلك مداره 360 درجة بما في ذلك باطن الأرض» مع «إطلاق التحذيرات واستدعاء جنود الاحتياط» والتركيز على ثقافة الحروب الإسرائيلية: «الرصاص المصبوب وعمود السحاب والجرف الصامد»، كل ذلك من أجل شرعية تغليظ ضربه لغزة المحاصرة.
كان نتنياهو يقول علناً: «لسنا مستعدين للعيش مع وضع يكون فيه مواطنو إسرائيل مهددين بإطلاق الصواريخ»، وكأنه يريد أن يقول بأنها كصواريخ آر 36 الروسية أو دي إف 5 أو JERICHO iii التي نمتلكها، وبالتالي علينا التعامل مع غزة باعتبارها الفيت كونغ، وأن نضربها بأي وسيلة تُركعها. هم يفعلون ذلك وإعلامهم يقدّمهم كضحايا!
نافذة أخرى على تجربة بائسة في تطويع الكذب في الإعلام جرت خلال الحقبة النازية، حيث لَعِبَ الإعلام دوراً مماثلاً عبر «راديو الشعب» الذي كان يلتقط المحطات المحلية فقط لحصر التأثير على الألمان. كان كل ضحايا هتلر «متآمرين» على ألمانيا العظيمة، وعملاء للسياسة البريطانية التي كانت «على قدر كبير من الخساسة» كما كانت توصف في الإعلام الألماني. كان يقال ذلك في الوقت الذي كان فيه البشر يُبادون في أفران الغاز.
وفي الوقت الذي كان فيه الجيش النازي يترنَّح في ستالينغراد، كان هتلر يوصي بـ «عدم نشر أية كلمة من التقرير العسكري» الوارد من الجبهة والذي يفيد بأن الروس «خرقوا صفوف الجيش الألماني على مسافة 6 كيلومترات، وأن القوات النازية لم تعد قادرةً على المقاومة، خصوصاً بسبب الجوع والبرد»، كما جاء في يوميات وزير دعايته جوزيف غوبلز. كان يريد أن يُوهِم الشعب الألماني أن أبناءه في الجيش مرابطون ومعنوياتهم عالية!
وعندما كان معارضو النازية في الداخل يُطحنون تحت خَبَبِ خيولها قتلاً وتعذيباً، كان هتلر يخطب في قصر الرياضة ببرلين ليعلن أن الحرب الشاملة قد بدأت ضد «اليهودية العالمية» المتآمرة على ألمانيا وأمتها التي لا تُبارَى، شاكراً المواطنين الألمان المخلصين على وقوفهم مع الرايخ، وواعداً إياهم بمستقبل باهر، وبحياة كريمة لأبنائهم بعد انجلاء الغمّة.
كان كل شيء في ألمانيا يبدو جيداً وهادئاً ومنظماً في قاموس الإعلام النازي، في ظل التصدي إلى العملاء والخونة في الداخل، الذين لا يستحقون العيش معنا. كان يقال ذلك للتعمية على التعليمات الغوبلزية القاضية بأن اليهود «ينبغي إبادتهم مثل الفئران عندما يمكن عمل ذلك».
كان إعلام السلطة وفي أتون الهزائم يصف الفوهرر (هتلر) بعد محاولة قتله العام 1944، بأن الناظر إليه ينتابه الانفعال الشديد لرؤيته بصحة جيدة، وإحساس بأنكم أيها الألمان «أمام رجل يعمل تحت حماية الإله» رغم جروح ساقه وتعبه الواضح. وأن «الأزمة السياسية داخل معسكر الأعداء تبرر آمالنا الكبرى» كما جاء في يوميات غوبلز. لقد وُظِّفَت الكلمة لكي تغيِّر المشهد الألماني في الداخل من جحيم إلى نعيم.
وقد اختصر بيرتهولد ألبرت شبير، وزير التصنيع الحربي النازي وأشهر مهندسي ألمانيا، أن راديو الشعب النازي حرم ملايين الألمان «من التفكير الحر» وبالتالي «إخضاعهم لإرادة شخص واحد».
تلك النماذج ليست وحيدة، ولا تعني أن هناك أغبياء لن يكرروها، بل هو واقع إعلامي مستمر إلى وقتنا الحاضر. فالأنظمة البائسة، التي لا تريد إصلاحاً ولا تغييراً لازالت تفعل الأمر ذاته، عبر أفواه وأقلام، تكتب ما لذَّ لتلك الأنظمة وما طاب، رغم أن الواقع غير ذلك.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4527 - الأربعاء 28 يناير 2015م الموافق 07 ربيع الثاني 1436هـ
الحقيقة المرة
هذا هو واقعنا للاسف
بارك الله في قلمك
من أروع ما قرأت . شكرا استاذ محمد
من يتلاعب بمقدّرات الأمة من الأسهل عليه التلاعب بالالفاظ
في البحرين تحديدا يتم التلاعب بالألفاظ وبالذات بالتهم المتعلّقة برجال الشرطة والمتظاهرين والمعتصمين : فمن يعتقل من المواطنين توجّه له ابشع التهم واشدّها وان كان محتجا سلميا بينما القاتل من الشرطة تصغر التهم حتى تصبح جنحة ويخرج مع حكم شهر او شهرين