من الانتقادات التي وجهت لنظرية الميمات المبالغة في تشبيهها بالجينات وتبسيط فكرة التطور البشري بآلية التقليد والانتخاب الطبيعي. فالميمات ليست كالجينات فهناك ما يسمى تشوش الميمات أثناء انتقالها من شخص لآخر. وحتى نفهم هذه النقطة علينا أن نوضح أن الميمات توجد في الدماغ و تنتقل من دماغ لآخر, إلا أن النسخة التي تنقل لا تتطابق تماما مع النسخة الأصلية التي في الدماغ, ويبدو هذا كفارق مهم بين التطور الجيني والتطور الثقافي، ذلك أن المعلومات الثقافية تتحول أو تتعدل عادة في كل عملية استنساخ لها, ومن ثم فإن الاستنساخ الكامل بمثابة استثناء وليس القاعدة، وهذا مغاير تماما للتطور الجيني حيث استنساخ الجينات كقاعدة يحدث كاملا بينما الطفرة هي الاستثناء.
ويجب أن نلاحظ نقطة مهمة أخرى هنا فخلافا للجينات، فإن الأفكار لا تنقل عادة بكاملها من شخص إلى آخر. فالمعلومات في دماغ شخص ما تولد سلوكا، فيحاول شخص آخر أن يستدل على المعلومات المطلوبة ليقوم بالعمل نفسه. وقد يحدث تعطل في النقل الدقيق للأفكار، ذلك أن فروقا في الجينات أو الثقافة أو الخلفية الشخصية للفردين تجعل أحد الشخصين يأتي بافتراضات خاطئة عن الأسباب التي دفعت الشخص الآخر إلى ذلك السلوك. ونتيجة لذلك، فإن الميمات غالبا ما تتحول منهجيا في أثناء عملية النقل، وهذه آلية تغاير كليا الانتخاب الطبيعي، الذي يعتمد على ميمة واحدة تنتشر بسرعة تفوق سرعة الميمات البديلة المنافسة. ومن ناحية أخرى، فإن التحول قد يكسب الناس في جيل من الأجيال ميمة تختلف عن الميمة التي ترسخ في كل فرد من أفراد الجيل السابق.
بمعنى هل تتحكم الجينات بالحضارة؟ وهذا الحديث يجرنا للنقاش الذي أثير في السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم بين أنصار الحتمية البيئية والحتمية الجينية. وقد بدأ الصراع عندما أصدر ويلسون كتابه البيولوجيا الاجتماعية الذي عرض فيه فكرة متطرفة عن أن الجينات هي التي تتحكم ببناء الحضارة, بأن الجينات تمسك الحضارة بِرَسَن. وقد تتنامى الحضارة مؤقتا في بعض الاتجاهات التي تخالف إنتاجيا انتشار الجينات، ولكنها على المدى البعيد تُعاد إلى خط التساوق وذلك بوساطة الانتقاء الطبيعي القائم على الجينات، تماما كما يعاد الكلب الشارد بالرسن الذي يُمسك به. ووفقا لهذا المفهوم، فإن الميمات هي مُستَعبِدات الجينات التي بنت الدماغ الذي يستنسخ الميمات, وتزدهر الميمات بمجرد مساعدة الجينات على التكاثر والانتشار.
سوزان بلاكمور في كتابها «مكنة الميمات» تنتقد هذه الفكرة لكنها تروج لفكرة نقيضها تماما حيث تؤكد على إن أسلوب التفكير بالمُحاكاة يهبنا رؤية جديدة للعالم. فمن وجهة نظر الميمات، كل إنسان آلة تصنع المزيد من الميمات، أداة نقل للنماء والاتساع، سانحة للتكرار، وثروة يُنافس من أجلها. فنحن لسنا بأرقاء لجيناتنا، وكذلك نحن لسنا بعوامل عقلانية حرة ننشئ الحضارة والفن والعلم والتقانة لمجرد أن نكون سعداء؛ بل نحن جزء من آلية تطورية ضخمة تعمل فيها الميمات كمكرِّرات تتطور باستمرار، ونعمل نحن كآلات لإنتاج الميمات.
بالطبع هناك انتقادات كثيرة لنظرية بلاكمور المطورة عن نظرية الميمات الأصلية لدوكنز, نعم نحن لسنا عبيدنا لجيناتنا, بل نملك حرية الاختيار إلا أن هناك أمورا أخرى محكومة بالجينات, وهناك سلوك يرث الإنسان الاستعداد له وتكمل الظروف البيئية ظهور هذا السلوك أي أنه سلوك جيني - ميمي.
قلنا إن الميمات ليست كالجينات فالنسخ التي تستنسخ من الميمات لا تطابق الأصل وبذلك لا تنطبق عليها الميزات التي حددها دوكنز لكي تصبح الميمات مكررات, إلا أن تطور اللغة والتطور التقني جعل الميمات تحقق لنفسها العناصر الثلاثة التي سبق أن أشرنا إليها (والتي تفوقت فيها الجينات) وهي الخصوبة وأمانة النسخ وطول البقاء. وعندما نتحدث هنا عن اللغة فإننا نتحدث عنها بوصفها آلية رمزية متطورة ونحيل على قدرة الذهن على إخراج الذاكرة من حيزها البيولوجي المحدود إلى الفضاء الاجتماعي حيث ستحاول الميمات أن تحقق الميزات الثلاث. فظاهرة الصوت/التصويت مثلا ستزيد في قدرة الأفكار على التكرر والانتشار. هذا فيما يتعلق بالخصوبة. أما فيما يتعلق بأمانة النسخ وتكوين صور مطابقة للأصل فقد تم لها ذلك بعد تصنيع آلات نسخ الميمات, الكتب المطبوع منها والرقمية, الإنترنت, وغيرها. ويمثل الإنترنت لحظة كبيرة انتقل فيها المجتمع من علاقة عمودية أي أن الثقافة تنتقل من جيل لآخر إلى علاقة أفقية أي أن الثقافة تنتقل في نفس الجيل لجميع الأفراد.
إن التطور على المستوى الميماتي قد تجلى في ظاهرتين: أولا، انتقلت عملية تناسخ الميمات من المنظومات التناظرية إلى المنظومات الرقمية؛ وثانيا، انتقلت الميماتية من نسخ المنتجات نفسها إلى نسخ المعلومات المتضمنة في المنتجات. إن المنظومة الرقمية تقلل أخطاء الخزن والنقل (فالكتابة الآلية -كمثال بسيط- تكون الأخطاء فيها أقل مما في الكتابة اليدوية)، ونسخ المعلومات بدلا من نسخ المنتجات نفسها يتميز بالدقة ويجنّب تراكم الأخطاء في النسخ المتكرر للمنتجات. وبهذه الصورة يمكننا معرفة مدى قدرة الميمات على تحقيق التقدم/التطور الذي عجزت عنه الجينات. وبهذه الصورة نلاحظ أن الميمات تتكون وتتطور كلما صارت الوحدات الطبيعية الجينية غير قادرة على تحقيق التعاون على المدى البعيد وضمان الحياة للمجموعات التي صار عدد أفرادها كبيرا
أهمية وخطورة
نظرية الميمات
ناحية القوة في نظرية الميمات أنها تتعامل مع الثقافة على أنها وحدات وتناقش كيف تبقى بعض الوحدات الثقافية وتستمر وكيف تموت أخرى, وكيف يمكننا أن نجعل وحدة ثقافية تلتصق بالدماغ, إنها تفتح آفاق العقل البشري على آليات تؤثر في عقلنا يوميا دون أن نشعر, تجعلنا نتأمل في المعلومات التي تدخل لأدمغتنا والتي تشبه في ضمن هذه النظرية بالفيروسات, حيث توصف الميمة أنها ذات مركز فيروسي لكنها محاطة بغلاف لذيذ حتى يتمكن من أن يتخطى الخطوط الدفاعية للدماغ. وتوضح لنا أيضا هذه النظرية أن العقل أو الفرد يمر بمرحلة تجعله أكثر تقبلا لميمات جديدة, وأن هناك ميمات وقائية ما أن يتقبلها فرد ما فستتكون عنده مناعة لتقبل ميمات جديدة معينة. لكن البعض بالغ كثيرا فسبق أن ذكرنا سوزان بلاكمور وما أثارته من موجة انتقادات واسعة, وهناك «برودي» وهو مهندس حواسيب وقد شبه العقل بالحاسوب والميمات بفيروسات الحواسيب ثم أوجد طرق لكيفية التخلص من الفيروسات العقلية. وهناك نظرية الميمات العصبية التي أوجدها «أونجر» حيث يعتبر أن الميمات توجد في الدماغ وهي ليست معلومة بل وحدة فيزيائية ملموسة توجد في الدماغ وتصدر الإشارات وإن الإشارات التي تصدرها تنتقل لعقل آخر وتسبب تكون ميمة فيه.
إلا أن أخطر ما في نظرية الميمات والذي يجعلنا ننصح أخذ الحذر في قراءة البحوث والكتب المتخصصة فيها ليس هذه المبالغة بل لأن هذه النظرية تروج للإلحاد, وعدم وجود الخالق, فمنهجها تطوري دارويني.
العدد 2491 - الأربعاء 01 يوليو 2009م الموافق 08 رجب 1430هـ