العدد 4522 - الجمعة 23 يناير 2015م الموافق 02 ربيع الثاني 1436هـ

الهملة وفاران وجاراتها: المسميات والنموذج المستنسخ

تناولنا في الحلقة السابقة صلة التقارب ما بين قرية الهملة والقرى المحيطة بها من ناحية اللهجة، وأوضحنا أنه على رغم التقارب الجغرافي بين الهملة وقرى الساحل الغربي إلا أن صلة التقارب بين الهملة وهذه القرى ضعيفة مقارنة بصلة التقارب بينها وبين قرى الساحل الشمالي، وعلى وجه الخصوص قرى فاران وجاراتها. ويبدو أن هذه القرية انعزلت اجتماعياً عن قرى الساحل الغربي.

يذكر، بحسب ما يروي البعض، أن عدداً من الأفراد، من قرى الجنبية والقُريَّة، كانت تتخذ من المناطق القريبة من الهملة مضاعن لها، أي مناطق سكن مؤقتة، وربما استقر البعض فيها. وهذا لا يعني أن التقارب جديد العهد، بل يبدو هذا التقارب قديم العهد، فقرية الهملة من القرى القديمة؛ يتضح ذلك من نظام القنوات التحت أرضية، أي نظام الثقب والأفلاج، المنتشر في أراضيها. وهذا النظام تم تجديده وإعادة استخدامه في الحقبة العيونية، وبالتحديد في قرابة القرن الثالث عشر. كذلك، ومما يثير الانتباه، أن مجموعة القرى هذه، أي الهملة وفاران والجنبية والقُريَّة والمرخ وبني جمرة، تمثل نموذجاً واضحاً ونادراً لأصل مسميات القرى في البحرين؛ فجميع الأسماء السابقة أسماء ضاربة في القدم وتكررت في أكثر من موضع في الجزيرة العربية، وبالخصوص المواضع التي هاجرت منها القبائل العربية قبل الإسلام، والتي استقرت في شرق وجنوب الجزيرة العربية. لاحظ المسميات التالية ومواقعها:

1 - المرخ، من أسماء المياه في تبوك في الشمال الغربي للجزيرة العربية (الجاسر 1977، ج 3، ص 1215)، كذلك في اليمن المرخ من أسماء الأودية، واسم المُريخ (بالتصغير) من أسماء قنوات المياه في اليمن (حبتور 2007). والمرخ في البحرين موضع عين أبوعليوه الذي يغذي نظام القنوات في القرى المجاورة.

2 - فاران، اسم جبل في شمال غرب الجزيرة العربية (الجاسر 1977، ج 3، ص 1018).

3 - القُريَّة (بالتصغير)، مكان أثري، في تبوك، يدل على أنه كان مقاماً فيه قلعة ومكان عبادة قديماً (الجاسر 1977، ج 3، ص 1093). وقد سبق أن ذكرنا وجود العديد من المناطق في الجزيرة العربية تحمل اسم القرية أو القُريَّة والمرجح أنها تسمية تطلق على كل مدينة أو قرية كانت عامرة ثم اندثرت. والقُريَّة في البحرين هي ما تبقى من قرية فاران القديمة.

4 - الجنبية، قرية في بلاد عسير في جنوب غرب الجزيرة العربية (الجاسر 1977ب، ج1، ص 264)

5 - جمرة، قرية في بلاد عسير (الجاسر 1977ب، ج1، ص 260).

6 - الهملة، وهي اسم لقريتين إحداهما في الطائف والثانية في بلاد عسير (الجاسر 1977ب، ج2، ص 1318). وكذلك توجد منطقة باسم الهملة في مدينة العين في دولة الإمارات العربية، ويستخدم فيها نظام القنوات التحت أرضية (الأفلاج) (عماد سعد، www.abudhabienv.ae).

الهجرات القديمة وتشابه الأسماء واللهجات

الحالة قيد الدراسة لا تشير فقط للتشابه في أسماء مجموعة من قرى البحرين ومناطق توجد في غرب وجنوب الجزيرة العربية، بل إن هناك تشابهاً في الطبيعة أيضاً؛ حيث يستخدم في غالبية تلك المناطق نظام الثقب والأفلاج. وكذلك، فإن جميع تلك المناطق ارتبطت بالقبائل القديمة التي سكنت شرق الجزيرة العربية أي البحرين القديمة. يذكر أن الشعوب العربية الحضرية التي تكونت في شرق وجنوب الجزيرة العربية، تكونت من عرق عربي يتمثل في مجموعة قبائل هاجرت من غرب وأقصى جنوب الجزيرة العربية. وضمن هذه الشعوب الحضرية تطورت مجموعة لهجات عربية حضرية، منها اللهجة البحرانية واللهجات الحضرية في شرق وجنوب الجزيرة العربية (كالقطيفية والعمانية واليمانية). وسبق أن تناولنا في كتابنا «أطلس اللهجات المحكية في البحرين» وجود ألفاظ وظواهر لهجية مشتركة بين اللهجة البحرانية واللهجات الحضرية الأخرى في شرق وجنوب الجزيرة العربية، وسبق أن تناولناها بالتفصيل. ومن خلال هذا التوزيع الجغرافي والعرقي لهذه الظواهر، ومن خلال الدراسات التاريخية التي أجريت على هذه المناطق يبدو أن هناك روابط قديمة تربط شعوب هذه المنطقة، وأن هذه الظواهر تكونت في جماعات عرقية معينة. ومع «تشتت» هذه الجماعات انتشرت هذه الظواهر معها. يذكر أن هناك جماعات فرعية أخرى انتشرت خارج الجزيرة العربية، لكنها بقيت محافظة على جزء من خصائص لهجتها، وبذلك تسمى هذه الظواهر «ظواهر ما قبل الشتات» أو ما قبل «الدياسبورا» prediasporic.

وقد أكد مهدي التاجر في كتابه Language and Linguistic origins in Bahrain على وجود التقارب بين اللهجة البحرانية وتلك اللهجات معللاً أن سمات هذه اللهجات هي التي تمثل سمات لهجات شرقي الجزيرة العربية الموغلة في القدم، بينما تمثل اللهجات ذات الامتداد القبلي، والتي تسمى مجموعةً باللهجة العنزية أو لهجة الخليج العربي، الامتداد الشرقي للهجات شمال ووسط الجزيرة العربية (Al-Tajir 1982, Arabic Summary, p.18 - 19)، ويقول التاجر أيضاً:

والشواهد التاريخية لا تتعارض مع النتائج اللغوية التي توصلنا إليها في هذا البحث. بل إن الدلائل اللغوية تؤكد الصلات اللغوية بين لهجات شرق الجزيرة وجنوبها؛ فأزد عمان نزحوا من اليمن بعد انهيار سد مأرب وبالمثل فإن قبائل عبدالقيس... نزحت من سهول تهامة باليمن قبل أن تتخذ البحرين مقراً لها. وربما فسر هذا التقارب التاريخي وجود خصائص صرفية موغلة في القدم في كل من البحرانية والعمانية واليمانية، هذه الخصائص تميز اللهجات التي يتكلمها الحضر من سكان شرقي وجنوبي الجزيرة الذين استوطنوا المنطقة قبل مجيء الإسلام» (Al-Tajir 1982, Arabic Summary, p. 19).

كذلك Holes في بحثه A participial infix construction of eastern Arabia يؤكد على أن العرق العربي الحضري في شرقي الجزيرة العربية هو، في الغالب، امتداد لقبيلتي الأزد وعبدالقيس، وأن الظواهر اللهجية الحضرية المشتركة بين اللهجة البحرانية واللهجات الحضرية في شرق الجزيرة العربية والإمارات وعمان واليمن ناتجة عن انتشار فروع هذه القبائل في هذه المنطقة (Holes 2012). وبذلك، فليس بالغريب أن تتشابه حتى أسماء المناطق، ونفس تقنيات توصيل المياه ومصطلحاتها، وهذا ما أكدنا عليه في الحلقات السابقة من هذه السلسلة.

النموذج المستنسخ

ظاهرة انتقال أسماء المناطق مع المجموعات السكانية المهاجرة، يمكن ملاحظتها في العديد من المناطق في الوطن العربي. وهي ظاهرة تحدث داخل البلد الواحد أو من بلد لآخر؛ فالحضري يرتبط بالأرض، كما القبلي الذي يرتبط بمسمى القبيلة. ويلتصق اسم الأرض بالحضري كما يلتصق اسم القبيلة بالقبلي. على سبيل المثال، في البحرين كل جماعة تنتقل من منطقة لأخرى داخل البحرين، ففي الغالب، إما أن يلتصق بهذه الجماعة اسم منطقتهم القديمة كنوع من الكنية أو أن ينتقل مسمى قريتهم بالكامل إلى المنطقة الجديدة، كما حدث في قريتي الجفير والغريفة؛ حيث انتقلت الأسماء من مكان لمكان آخر داخل البحرين. وهذه الظاهرة شائعة، وتم ملاحظتها ورصدها من قبل عدد من الكتاب في مناطق مختلفة في العالم العربي. ويعلل ناصر حبتور في دراسته «غيل حبان» في اليمن أسباب تكرار الأسماء من منطقة وأخرى بقوله:

من الملاحظ أن من عوامل ودوافع تكرار إطلاق الاسم الواحد على أكثر من مكان هو إما الإعجاب بذلك الاسم لشهرة ما، أو لانتقال جماعة إلى موضع جديد فيعمدون إلى تسمية ذلك الموضع باسم موطنهم الأصلي تيمناً به وحنيناً وشوقاً له، وفي حالة محاولتنا معرفة أي من الاسمين هو الأصل فإنه من العسير النفاذ إلى ذلك نتيجة لشح المؤشرات التاريخية، ولاستمرارية الحراك السكاني في الموطن الواحد» (حبتور 2007).

وهكذا نرى أنه من المحتمل أن تكون أسماء القرى (الهملة، وفاران والجنبية والقرية والمرخ وبني جمرة) هي أسماء انتقلت مع المجموعات السكانية التي هاجرت من مواطنها الأصلية في فترات قديمة واستقرت في البحرين.

العدد 4522 - الجمعة 23 يناير 2015م الموافق 02 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً