وسْط ساحة ثقافية كانت مرفَّهة نوعاً ما، في دولة الإمارات العربية المتحدة، نهاية ثمانينيات ومطلع تسعينيات القرن الماضي، وفي ظل اهتمام ورعاية رسمية للطاقات هناك لا تعرف التبرُّم، والبدلات السخية التي كانت تصرف كمكافآت تمثيل، بحيث تتساوى في المؤتمرات الخارجية مع ما يتقاضاه وكيل وزارة مساعد في مهمة رسمية؛ على رغم أن أكثرنا كان يتبع جهات غير رسمية، وتولّي طباعة الأعمال الإبداعية؛ بل والحضّ على توفير المناخات الملائمة لتراكمها، والمكافآت التي تصرف مقابل الإنتاج، ومشروع التفرّغ المتقن، على رغم عدم تعميمه، بحيث يتمتع المرشح له بكل الامتيازات وهو على رأس عمله، من ترقيات وعلاوات وزيادات؛ مع شرط غير منهك وبسيط؛ أن يقدّم بين عمل أو عملين في العام، وفي حال لم يتم ذلك لا تقوم الدنيا، ويتم التشهير بالكاتب، وأنه ينام ويصحو ويأكل ويتسكّع وُينجب ويسمن ويفرح ويتفاءل، ويدخل في بياته الشتوي «على نفقة الدولة»!
على رغم ذلك؛ إلا أننا كنا نرى الساحة الإبداعية في البحرين النموذج الذي يجب أن يُتمثَّل ويُحتذى، وأننا نحتاج إلى سنوات طويلة كي نكون على مسافة قريبة منه.
رؤية أي شيء عن بعد لا تعطيك صورته الحقيقية وحجمه وأبعاده، عدا التفاصيل المرتبطة به. كان الأمر في رؤيتنا للساحة الإبداعية في البحرين ضمن ذلك الواقع في تلك الفترة.
لم تكن الساحة الإماراتية نموذجية في جوانبها المختلفة. لا ساحة في الدنيا بتلك المواصفات. لم تكن العلاقات على وئام مع جميع أبناء جيلنا، وخصوصاً أولئك الذين وضعوا لبنات اتحاد كتَّاب وأدباء الإمارات، وأعطوا للحركة الإبداعية الجديدة زخمها وحضورها، وتحديداً مع بدايات تولّي أسماء إبداعية كبيرة المنافذ الثقافية في الصحف، وأخص بالذكر الشاعر والمسرحي السوري الراحل محمد الماغوط، والناقد السوداني يوسف عايدابي، وشاعر العامية المصري جمال بخيت، وأسماء كبيرة مثل جمعة اللامي وغيرهم.
بُعْدُ المسافة بين بعض الإمارات السبْع التي يتوزع عليها الكتَّاب والشعراء والروائيون والفنانون التشكيليون والمسرحيون وبعض النقاد، على قلَّتهم، ربما أتاح نوعاً من الدفء والاحترام في العلاقة، بحكم ندرة التواصل الذي لا يحدث إلا في الفعاليات الأدبية الكبرى، الداخلية منها والخارجية. قلَّة الاحتكاك المباشر حفظ لتلك العلاقات اتزانها وقيمتها. ذلك لا يعني أيضاً أن أمراضاً وتوترات لم تُبْتَلَ بها بعض العلاقات، وتلك سنَّة من السنن. حالات من الغيرة والتسفيه تحدث هنا وهناك، ولكنها ليست القاعدة.
بعد العودة إلى البحرين في نهاية تسعينيات القرن الماضي (1999)، صار الاقتراب من الساحة بشكل مباشر مقنعاً؛ أو هكذا بدا الأمر؛ وإن لم يخْلُ من التحفُّظ، بحكم أن الأوضاع السياسية لم تنفرج في صورتها التي حدثت بعد عامين.
في الاقتراب ترى الصورة وما بعدها. تقف على التفاصيل. ليس المكان الذي هو الإطار لتشكّل الصورة؛ بل ما في الصورة من تفاصيل. تفاصيل البشر المعنيين بالحراك الثقافي.
شهور قليلة كانت كافية ألاَّ تصاب بالخيبة؛ لأنك هناك لم تسقط من حسابك أيضاً أن الرؤية لم تكن مكتملة عن حقيقة الساحة هنا. وضع الاحتمالات السيئة في الاعتبار عادة ما تحصّن الإنسان من الخيبة والصدمة في الوقت نفسه.
ليس فقط لم تكن الساحة نموذجية هنا لعدّة اعتبارات؛ ليس بسبب شح الإمكانيات المادية. الوفرة المادية لا تصنع دائماً إبداعاً مدهشاً!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4522 - الجمعة 23 يناير 2015م الموافق 02 ربيع الثاني 1436هـ