نستخدم معنى الإرهاب في هذا الحديث بالمدلول السياسي، الذي بات متعارفاً عليه، منذ رحيل السوفيات عن أفغانستان، بعد منازلة طويلة مع ما سمي آنذاك «المجاهدين الأفغان»، وحلفائهم من بلدان أخرى، وعلى رأسهم تنظيم «القاعدة». وأول ما نلحظه في استخدام المفهوم هو انحيازه وخضوعه المستمر لقانون المنفعة. فعلى سبيل المثال، تم النظر إلى حركات التحرر الوطني من قبل المستعمر، باعتبارها حركات إرهابية، تماماً كما تنظر حكومة نتنياهو في فلسطين المحتلة، إلى المقاومين الفلسطينيين، الذين يناضلون من أجل استرجاع حقوقهم. وكان الحال كذلك، من قبل الأميركيين مع المقاومة العراقية، التي اندلعت إثر الاحتلال الأميركي لأرض السواد.
ما يلفت الانتباه هو الاستدارة السريعة، أحياناً في الموقف السياسي من مجموعة ما، من موقف مساند لها، باعتبارها طليعة جهادية، إلى نقيض ذلك. فـ «طالبان» و»القاعدة» هما بالنسبة إلى ذلك حركتان «جهاديتان»، طالما واجهتا الاحتلال الشيوعي، أما إذا انتقلت عملياتهما نحو الغرب يغدوان تنظيمان إرهابيان. والإرهابيون الذين يمارسون القتل العمد بحق المدنيين في الشيشان هم «مجاهدون»، أما إذا مارسوا ذات الفعل في دول غربية، فيتحولون بغمضة عين إلى إرهابيين.
في الربيع العربي، كان واضحاً منذ البداية، أن «الإخوان المسلمين»، هم عموده الفقري، في معظم البلدان العربية، التي انطلقت منها الحركات الاحتجاجية. وفي هذا السياق، ربما يجادلنا البعض بأن «الإخوان المسلمين»، ليسوا من أطلق شرارة الحركة الاحتجاجية في مصر وتونس. وذلك صحيح إلى حد كبير، لكن من استثمر الحراك هم «جماعة الإخوان»، كونهم القوة السياسية المدنية، الأكثر تنظيماً وقدرة على اقتناص اللحظة واستثمارها للقفز إلى السلطة. لكن ذلك لم يمنع الإدارة الأميركية، ومن خلفها حلفائها في أوروبا من التعاطي الإيجابي مع هذا الحراك.
في ليبيا كان واضحاً منذ بداية الحركات الاحتجاجية ضد القذافي، وجود تنظيمات متطرفة خلف الحراك، وعلى رأسها «جبهة الإنقاذ الوطني»، بقيادة المقيريف. وقد حظيت هذه المنظمة بتأييد أميركي واضح، أثناء احتدام الخلاف الأميركي مع النظام الليبي. وكانت المقدمات تشي بالنتائج. فلم يكن متوقعاً، وفقاً للمعطيات على الأرض، أن ما سوف يستتبع سقوط القذافي سيكون قيام نظام مدني وديمقراطي. فكل ما كان متوفراً من معطيات يؤكد أن المنظمات الإرهابية المتطرفة سيكون لها الدور الأساس في تقرير مستقبل ليبيا. وكان مستقبلاً مظلماً بكل المقاييس على أية حال.
الأمر في سورية لم يكن مختلفاً كثيراً، فقد كان الموقف الأميركي والأوروبي متردداً وخجولاً تجاه ما يجري على الأرض السورية من تغول لتنظيم «القاعدة» وتفرعاته، كتنظيم «داعش» و»جبهة النصرة». وبقي الأمر كذلك، إلى أن تحوّل تنظيم «داعش» إلى أخطبوط، يشن حرباً عالمية في عدد كبير من البلدان العربية، وفي معظم قارات العالم. وكانت هيمنته على ما يقرب من ثلث الأراضي العراقية، واقترابه من أربيل في شمال العراق، هي نقطة التحول الأميركي، تجاه «داعش».
وحتى حين تكشفت حقيقة وجود التنظيمات الإرهابية في سورية، وجرى تصنيفها بأسمائها من قبل مجلس الأمن الدولي، رفضت الحكومة الفرنسية تصنيف «جبهة النصرة» كتنظيم إرهابي، في حين لا تمانع بعض الدوائر الغربية، من تصنيف المقاومة الفلسطينية بذلك .
ما تقودنا إليه هذه القراءة، أن من العوامل المعطلة، في الحرب على الإرهاب، هو غياب تعريف واضح ومحدد للمفهوم. وأن تحديد من هو إرهابي ومن هو مقاوم، للاحتلال أو الاستبداد، خاضع في مقدماته ونتائجه لقانون المنفعة ولازدواجية المعايير. فالجهة ذاتها، يمكن أن تكون من منظور دولةٍ ما مقاومةً في مرحلة، وإرهابيةً في مرحلة أخرى، رغم أنها في الحالتين تمارس نهجاً واحداً، هو القتل على الهوية، والعمل على تفكيك الكيانات السياسة والدول، وتهديد الأمن والاستقرار، وتعطيل مصالح الناس، وإيقاف قطارات التنمية.
ربط السياسة بالأخلاق، هو شرط أساسي لنجاح الحرب على الإرهاب، لكن ذلك أمر محال. فالأخلاق لها علاقة بمبادئ ومعايير قيمية، ليس لها للأسف مساحة مقبولة في عالم صناع السياسة، شأنها شأن المبادئ الإنسانية الأخرى. وإلا فما الذي يفسر اعتراض الإدارة الأميركية، على مناقشة جرائم الحرب الإسرائيلية في محكمة الجنايات الدولية، وهي التي سعت باستمرار لجر خصومها من النظم السياسية إلى هذه المحكمة، تحت ذريعة ارتكابهم جرائم ضد الإنسانية. والسجل الأميركي في هذا السياق طويل جداً.
معادلة أنكى في النظر إلى الحرب على الإرهاب، تمثلها الحالة الكاريكاتورية، فيما يجري الآن في العراق وسورية. تنظيمات إرهابية بعينها، تقوم بعمليات في البلدين، لكن قانون المنفعة يجعل عمليات الإرهاب مقبولة في سورية ومرفوضة في العراق. كيف تستقيم النظرة والحالة هذه إلى الحرب على الإرهاب، في ظل السلوك الانتقائي.
المعضلة في قانون المنفعة، لا يكمن فقط في ازدواجية النظر إلى الإرهاب، أو في السلوك الانتقائي تجاه ممارساته، بل في سلوك الإرهاب ذاته. فهو سلوك عشوائي، لا يميز بين عدو أو صديق. فالقوى التي تدعمه وتقدّم له التسهيلات اللوجستية، والمعدات والسلاح، يمكن أن تكون من أوائل ضحاياه. وسلوك صناع القرار الكبار تجاهه، ظل ولايزال، ينطلق من نظرة آنية براغماتية، لا تضع حساباً للمستقبل. فتكون نتيجة ذلك، أن يكونوا هم من ضحايا الإرهاب. ووضعهم في ذلك هو أشبه بمن يربي نمراً مفترساً، على أمل توجيه هذا النمر لافتراس خصومه، فيكون مالكه، بعد أن يشب عن الطوق ويكشر عن أنيابه، هو من أول ضحاياه.
لقد مضى على بداية الحرب على الإرهاب عالمياً، قرابة ربع قرن من الزمن، ومع ذلك لم تتمكن هذه الحرب من دحره، بل على النقيض من ذلك، لقد تضاعف دوره عدة مرات، وأصبح يشكّل عبئاً حقيقياً على الأمن والسلام العالمي. فعسى أن تكون الحوادث الأخيرة في فرنسا، والموقف العالمي الغاضب ضد الإرهاب، بداية منعطف جديد في النظرة إليه، نظرة تبتعد عن ازدواجية المعايير والكيل بمكاييل مختلفة، وتغليب قانون المنفعة إلى ما يحقق الأمن والرخاء والسلام لجميع البشر.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4521 - الخميس 22 يناير 2015م الموافق 01 ربيع الثاني 1436هـ