العدد 4521 - الخميس 22 يناير 2015م الموافق 01 ربيع الثاني 1436هـ

حكاية بلاد نمنم

البيئة والتنمية - رجب سعد السيد 

22 يناير 2015

كانت لي جدة تجيد الحكي. ومن حكاياتها التي كانت ترويها لأحفادها حكاية «بلاد نمنم»، عن سكان تلك البلاد من أكلة لحوم البشر. كنت الحفيد الوحيد الذي يُقبِل على هذه الحكاية بالذات، ويطلبها في كل جلسة سمر مع الجدة. كان الحفدة الآخرون يخافون، ويلوذون بأمهاتهم، بينما أروح أنا في جولة خيالية، يتجسد لي فيها أولئك البشر الذين يأكلون لحوم الغرباء ممن أوقع بهم الحظ التعس في تلك البلاد.

وربما كانت حكاية جدتي الدافع وراء حرصي على تتبع كل ما يتصل بأكلة لحوم البشر. فعثرت أولاً على كتاب يروي قصصاً لبعض المستكشفين والروّاد الأوائل لإفريقيا والأميركتين تحتوي على أوصاف لآكلي لحوم البشر، مثل قصص كريستوفر كولومبس عن مجموعة منهم اسمها «كاريبس» كانت تعيش فى منطقة سان فينسنت وبعض الجزر المحيطة بها.

ثم قرأت في مجلة علمية ملخصاً لأبحاث توصلت إلى أن بعض سكان جبال بابوا نيوغينيا كانوا من أكلة لحوم البشر حتى نهاية خمسينات القرن الماضي! وقد فنيت تلك الجماعة بسبب وباء «كورو» الذي انتشر بين أفرادها، وهو مرض يقضي على من يصاب به في غضون سنة. ولا ينتقل ميكروب هذا الوباء إلى الإنسان إلا من مصدر وحيد هو اللحم الآدمي! وجاء في الملخص نفسه أن أولئك القوم لم يكن في سلوكهم قتل الآدميين من أجل لحومهم، بل إنهم لم يكونوا يأكلون الغرباء، ولكنهم كانوا «يكرمون» أصدقاءهم وأقاربهم بعد وفاتهم، فيأكلون قطعاً معينة من أجسادهم.

وفي العام 1982، كان فريق من علماء الإنثروبولوجيا، تقوده الأستاذة في جامعة كولورادو الأميركية باولا فيللا، يعمل في أحد الكهوف القديمة في جنوب فرنسا، فعثر على عظام آدمية عمرها ثمانية آلاف سنة، أي من العصر الحجري الحديث. وتعرّفوا في تلك العظام على هياكل لثلاثة عشر آدمياً، من الرجال والنساء والأطفال، بالإضافة إلى بقايا عظام حيوانات مدفونة في الموقع ذاته. وبمقارنة العظام البشرية بالحيوانية، تبيّن أن في كل من النوعين علامات غائرة لا يمكن أن تكون ناتجة عن قوى ضاغطة وقعت على الجثث المدفونة. فالعلامات تشي بأنّ ثمّة آلات قطع أُعملتْ في تلك العظام بأسلوب عمدي، يؤكّد أن الذي قطّع الحيوانات ليعدّها لغذائه هو ذاته الذي قام بهذا العمل أيضاً عندما فشل في صيد الحيوانات، فجاع، فلم يجد أمامه إلاّ بعضاً من أبناء جنسه. كما لاحظ أفراد الفريق العلمي أن ذلك الإنسان المتوحّش القديم لم يفرّق، في عملية الدفن، بين بقايا ضحاياه من بني جلدته وبقايا الحيوانات، ما يؤكّد أن «النوعين» لم يكونا بالنسبة إليه سوى مادة قابلة للالتهام.

بقي أن نشير إلى تعليق لأحد علماء جامعة بالتيمور الأميركية يقول إن أكلة لحوم البشر لم يكونوا يتناولون اللحم البشري بطريقة خاصة، أو مصحوباً بطقوس احتفالية. وفي ذلك دليل على أنهم لم يعتبروا «فرائسهم» من الآدميين بشراً مثلهم، بل مجرد مصدر للطعام.

العدد 4521 - الخميس 22 يناير 2015م الموافق 01 ربيع الثاني 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً