أن تنطق العربية لا يعني أنك تفهم العرب، بل لا يعني حتى أنك تفهم العربية ذاتها. فالنطق «الخارجي» عبر اللسان وليس عن طريق النَّفْس، لا يمنح المرء القدرة على أن يُدركَ الكُلِّيَّات. هذا الأمر ينطبق على أشياء كثيرة في حياتنا وتصرفاتنا وفهمنا للأفكار.
من حيث انتهيت أبدأ في جرِّ السَّبحَة. فليس كل مَنْ يتحدث عن الحرية أو الحقوق أو كما هو شعار اليوم «الديمقراطية» يفهم حقيقتها، إنْ على مستوى الإدراك النظري أو على مستوى التطبيق، بما فيه دول تدَّعي «ذلك» في أنظمة الحكم، وبالتحديد تلك الدول التي تباهي باتخاذ الديمقراطية الليبرالية منهَجَ حكم كما في حالة «إسرائيل» كما تقول.
قبل أيام، كَتَبَ جيديون راكمان في صحيفة «الفاينانشال تايمز» مقالاً جميلاً حول ذلك، مُخصّصاً حديثه عن تجربة «إسرائيل الديمقراطية». فحسب راكمان، فإن «الصحافة حرة» في (إسرائيل) والتصويت نظيف والجدل الانتخابي يتسم بالحيوية»، ولكن «هنالك قضايا أكثر خفاء يجب أن تكون مدعاة لقلق حقيقي» بشأنها في الداخل الإسرائيلي وخارجه.
ذكر راكمان أن أربعة أشياء مهمة هي التي تشكل خطراً على مستقبل «إسرائيل» كدولة، «من المفترض أن تكون مختلفة» في المنطقة، من أهمها «ابتعادها عن الديمقراطيات الغربية»، وأيضاً «ترويع مَنْ يشككون في الإجماع الوطني حول موضوعَيْ الأمن والإرهاب». فتآكل الديمقراطية الليبرالية في «إسرائيل» ناتجٌ عن الخلط في شئون هذيْن الأمريْن.
ففي المواطنة، التي يجب أن يتساوَى فيها العربي واليهودي داخل «إسرائيل»، يوجد ارتباطٌ وثيقٌ بهوية الدولة من الناحيتين السياسية والحقوقية وانعكاسه على مبدأ المساواة، في حين، يظهر أن الرأي الذي يميل «إلى تفضيل الأرض حين تواجه بالاختيار بينها وبين الديمقراطية» بات هو الأقوى هناك.
ليس ذلك فحسب، بل إن الأمور باتت تتداخل مع أشياء «مقدسة» ولكنها تُقرأ بشكل معقوف. فقد أشار إلى أن الملياردير الأميركي شيلدون أديلسون، وهو مناصر لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، قد صرّح قبل فترة وجيزة بأنه لا يعتقد «بأن الكتاب المقدس ذكر أي شيء عن الديمقراطية»! لذا فإن «إسرائيل لن تكون ديمقراطية»، هكذا قال.
هذا الانسلال الفجّ يُراد منه فكُّ الالتزام عن أن تكون «إسرائيل» دولة ديمقراطية ليبرالية كما ينظر إليها الغرب، فتقوم بالتمييز ضد 1.6 مليون فلسطيني أمام اليهود. هذا الأمر وصفته «رابطة مكافحة التشهير في الولايات المتحدة» الأميركية المناصرة لـ «إسرائيل» دائماً بأنه «محاولة لتذويب الشخصية الديمقراطية لإسرائيل في شخصيتها اليهودية».
وحسب الديمقراطية الليبرالية، فإن شتَّان بين تذويب الديمقراطية في اليهودية وبين تذويب اليهودية في الديمقراطية. باختصار، إن المسار الأول في تلك المعادلة يعني (وهو الذي تستمر فيه «إسرائيل» وتهدف إليه) غياب أي صفة علمانية للدولة في «إسرائيل»، لصالح الدولة الدينية، وبالتالي هي تبتعد عن الديمقراطية الغربية كما تخوَّف لاكمان.
هذا الرأي لم يعد مقتصراً على اليمين داخل «إسرائيل» كما كان يُظَن في السابق، بل أصبح رأياً عاماً. فحين يؤيد 89 في المئة من الإسرائيليين نزع النائبة البرلمانية حنين الزعبي لجنسيتها وطردها من الكنيست، فهذا يعني أن لغة اليمين باتت كالسماء التي تغطي كامل «إسرائيل»، ولم يعد أي تكتل قادراً أن يتمايز عن السَّمْت بشكل قوي أو يُعوَّل عليه.
وعندما يُشارك 12.3 في المئة من سكان «إسرائيل» في جنازة حاخام يهودي متطرف (عوفاديا يوسف) كان يقول علناً بأن «العرب صراصير يجب قتلهم وإبادتهم جميعاً. إنهم أسوأ من الأفاعي السامة»، وأن «اليهودي عندما يقتل مسلماً فكأنما قَتَلَ ثعباناً أو دودة». فهذا ليس بأمر عارض، بل أمر مركزي في التفكير الصهيوني نحو العرب ونحو محيطه العام.
إن انتقال التطرف من كونه شذوذاً، إلى كونه قاعدةً، يعني أشياء كثيرة، ومن أهمها ضياع أي تفسير موضوعي وسليم للمثل والقيم والقوانين التي تحفظ الحقوق، ليُصبح كل شيء في مدار التطرف وضد الأشياء المقابلة له، سواءً إن كانت بشراً أو مفاهيم.
الذي يحدث في «إسرائيل» هو أن العلاقة بين التطرف والشعبية باتت طردية؛ فكلما زاد التهديد للفلسطينيين وشنّ الحروب عليهم، وممارسة الاغتيالات ضدهم في ساحة الحرب وخارجها، وقضم أرضهم، أصبحت الشعبية متصاعدة لمن يديرون تلك السياسة، وكأن التطرف هو الذي يحمي الأرض والهوية، وليس الدولة الضامنة لتطبيق القانون.
وعندما تتحوَّل التفسيرات للقوانين الحافظة للحقوق إلى تفسيرات سالِبَة لتلك الحقوق، فهذا يعني أن التشويه لم ينتقل فقط إلى الفهم، بل تحوَّل إلى تشريع أسوَد مقصود، بعد لَيِّ رقبة القانون، بالضبط كما كان يفعل النازيون الألمان في التشريعات التي كُيِّفَت لتبرير جرائمهم بحق الأقليات وتجاه العديد من المفاهيم والتي تأتي في طليعتها المواطنة.
هنا، تتحوَّل الدولة إلى مومياء محنطة. فالمومياء بها عينان وأنف وأذنان وفم وكل شيء، لكنها لا تتحرك، لأنها بلا روح. هكذا هي الدولة المتطرفة والتي لا تحتكم إلى القانون المُلزِم للجميع. بها برلمان وسلطات ثلاث وصحافة وانتخابات وصناديق ومحاكم عليا، لكن ذلك كله مُذابٌ في قِدْر التسلُّط والتمييز.
في ذلك القاموس، يصبح كل شيء مختلفاً وقابلاً لأن يتحوَّل إلى مسخ. الحرية إلى تقييد، والمواطنة إلى تمييز. ويصبح الخلاف على البديهيات أمراً لازماً بغية تحويلها إلى طلاسم، كي يُختَلَف عليها وفيها، لتزداد مساحة اللعب على تفسيراتها وهو ما يحصل بالضبط.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4520 - الأربعاء 21 يناير 2015م الموافق 30 ربيع الاول 1436هـ
اللهم كن في عون الفلسطينيين
ان من المؤلم ان نجد العالم يقف مع هذا الكيان
الفضيحة
يختلفون حتى على الشمس لا لأنهم لا يرونها بل لأن ضوءها يفضحهم