مع الإجابات تبدو المسألة منتهية بنقطةٍ في آخر السطر. ماذا بعد الإجابات الجاهزة؟ لا شيء. وإن تعددت الإجابات يظل في نهايتها سطرٌ أيضاً. مع السؤال الأمر مختلف تماماً؛ فكل أمرٍ يظل معلقاً مع السؤال ولا نقطة في نهاية السطر. هنالك «بَعْدِية» (ما بعد السؤال) لن تعرف حدوداً نهائية. في الإجابات مثل تلك الحدود، وهي حدودٌ تظل في «يقينٍ» لا يخلو من وهم.
متاحةٌ هي الإجابات في الشرق، وهنا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون في منح تلك المساحة ضمن واقعٍ من مصلحة جهاتٍ أن يستمر بوضعيته. كلٌ يدعي امتلاكه الحقيقة، وكلٌ عنده محطّ رحال المعرفة. فلا فضاء متاحاً للسؤال، ولأنه لا نهاية له تماماً كالقلق الذي لا نهاية له سينتج عنه ما لا تحمد عقباه.
في الشرق وضمن حدودنا، فضاء السؤال محكومٌ باعتباراتٍ أولها الدين الذي لم تحرّم نصوصه أي شكلٍ من أشكاله وموضوعاته. حين توضع تلك المحظورات في السؤال ضمن الدين، فكل سؤالٍ سيلجم وستتم نسبته وإرجاعه بتفتيش النوايا إلى التدرج للتطاول على الدين؛ وإن كان موضوع التساؤل يرتبط بشأن دنيوي، من قبيل نمط الحكم وأدائه والفساد والقمع والتمييز والإفلات من محاسبة القانون.
في المجتمع المصغر في شرقنا، هناك الأب هو مصدر الإجابات وتنتهي عنده إذا نال حظاً من التعليم. كل ذلك محتفى به مع الحرص على التذكير بالإصغاء وعدم المقاطعة، لأن ذلك عنوان لسوء الخلق والتربية. حين يأتي السؤال في ذلك المجتمع المصغّر تكون أدوات التعامل معه غير مشروطةٍ بحسن الخلق والتربية.
في سلوكٍ يبدر من الأب خلاف وصاياه وإجاباته، يلحّ السؤال ويطلّ من فضول الابن/ الطفل، كأنه رجع صدى واستذكار لما تم تثبيته ووجوب مراعاته من قبل الإبن (المتلقي)، وعليه أن لا يكون منتبهاً ومراعياً للفجوة بين الوصايا/ الإجابات وما يطرأ من تجاوزٍ لها. على الإبن أن لا يسأل. فعند بعض الأذهان يعتبر إحراج الأب أشد خطورةً من السؤال ومراجعة الإجابات التي استقرت في وعيه.
وخارج ذلك المجتمع المصغر إلى المجتمع الأكبر، يمكن لأيٍّ منا الوقوف على تلك الوصاية والحجر على السؤال ومحاولة تغييبه. هناك حيث الرقابة على السؤال تتجاوز بمراحل الالتفات إلى الإجابات. يُراد للأسئلة أن تكون في أنفاق أو مدفونة ومركونة في داخل الإنسان. كأن الأسئلة مفاتيح الفتنة، وهي كذلك. الفتنة التي تعيد صياغة الجامد والمكرس والثابت والقطعي في مجتمعاتنا. في هذا الشرق القطعي الذي لم يصل بقطعيته في الحاضر وقبل عشرات العقود إلى توفير طمأنينةٍ حقيقيةٍ له.
ولأن من السؤال تبدأ المعرفة التي لا تكون قطعية بالدرجة الأولى في حدود إمكانات الإنسان، بإجابات توصد الأبواب أمام الإضافات والمحاولات والاجتهادات والتي هي الأخرى ليست قطعية، يتيح كل ذلك فرصاً للعقل البشري كي يكون متحركاً وفاعلاً وديناميكياً ومشغولاً بالبحث وعدم الاطمئنان إلى حدود نهائية لمعرفته.
كل إيمان أو معرفة أو بحث عن خلاص أو تلمس منهج لم تتحه الإجابات ولم تكن مدخلاً له. الأسئلة تولت الأمر في مراحل تالية بحثاً وتنقيباً ومقارنة ومقابلة كي يبحث الإنسان عن اطمئنانه الذي لا يمكن أن يكون قطعياً مادام مشغولاً بالسؤال ومحاولة البحث عن إجاباتٍ ليس ملزماً أن يؤمن بقطعيتها ووضع نقطة في آخر السطر.
ادعاء امتلاك الإجابات لا يكلف شيئاً، والتصدّي للتخريجات لا يكلف شيئاً أيضاً. المكلف اليوم هو الجرأة في طرح الأسئلة والانشغال بها، وليس الإطمئنان إلى الإجابات والنوم على النقطة في نهاية السطر.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4520 - الأربعاء 21 يناير 2015م الموافق 30 ربيع الاول 1436هـ
معك وضدهم
معك في اتاحة المجال للأسئلة وضدهم في تحويلها لملهاة وهواية بدون هدف سوى التشكيك لمجرد التشكيك والاثارة والتهريج ووضع كل شيء على مشرحة الشك ويشارك كل احد في مناقشة امور تخصصية بحتة لا امنعهم لكن انا ضدهم .