8 سنوات مرَّت على رحيل السيد محمد صالح بن السيد عدنان الموسوي المعروف بالخطيب العدناني، عن عمر ناهز الـ 88 عاماً. كان ذلك يوم الخميس (18 يناير/كانون الثاني 2007). استطاع بحكمة وفطنة أن يحوِّل مقاطعة فرضت عليه لسنوات، إلى عزلة انسجم معها. ذلك ما فعله الخطيب العدناني طوال 35 عاماً.
سيرة لم تخْلُ من خيار الانحياز إلى القناعات التي رأى أنها تمثله وتشبهه. ولكل ذلك ضرائب لا يستطيع أحد الارتجال بادّعاء إمكانات تحمُّلها. بمعنى أن تذهب في ما يشبه التأبيد. تأبيد العزلة؛ وبمعنى أدق: المقاطعة التي فرضت عليه بعد نشر كتابه المثير للجدل بالنسبة إلى الأوساط الدينية التي ينتمي إليها بالدرجة الأولى «حصَائل الفِكَر في أحوال الإمام المنتظر»؛ حيث «خرج من خلال أطروحته تلك على النمط الغالب للتفكير عند رجال الدِّين، وأحدث «ضجة كبيرة قوطع بسببها في العام 1972».
بين المقاطعة تلك، ورحيله 35 عاماً، لم تكن بالنسبة له نهاية التاريخ. نهاية التاريخ، بمعنى أن يضع حدَّاً لمستقبل الفكر الذي يجد حياته بالاشتغال عليه، والدخول في مماحكات معه؛ ما يعني أيضاً امتداد تلك المماحكة إلى الذين سيستقبلونها... الأتباع والمريدين، والذين لا حظ لهم من تفاصيل كل ذلك!
«حماية الأحداث من الغياب»
في التحضير لاستدعاء السيرة وما بعدها، كان لابد من تذكِّر الكتابة العالقة في الذهن، لا الذاكرة. الذاكرة تخون، على الأقل بالنسبة لي. ولا مبالغة في القول، إن أفضل ما يعلق منها حول تناول السيرة الحاضرة للخطيب العدناني، هو ما كتبه الزميل القاص والروائي والمصور الفوتوغرافي حسين المحروس. كان ذلك في كتابة ذات وقت. تعدَّدت اللقاءات بينه وبين العدناني. التفاصيل التي تبدو أنها لا علاقة لها بالسيرة. التفاصيل الصغيرة هي التي تمنحك تلك المشاركة في اللقاء والأضواء التي تجنَّبها طوال سنوات. التفاصيل التي تبدو صغيرة هي التي تدوزن السيرة وتجعل لها ذلك الأفق الغائب، بعد مقاطعة وعزلة تصالح معها!
يكتب المحروس «يوم قالوا إنَّ هذا الرجل لا نعرف خطَّه السياسي. بعدها قاطعوه لأنّه لم يعلن إلى أيّ خطّ ينتمي. نسوا أنَّه لا ينتمي، ولا مكانَ في باله إلا مكانته. لم أسأله هذا السؤال أيضاً. وعندما صرت أقلِّب دفاتره الصغيرة التي تجاوزت السبعين، وجدت أنَّ السياسة عنده على السطر لا على الشارع. وأنّه دوَّن كلّ حركة في أحداث التسعينات القاسية. أثبتها وحماها من الغياب».
السيرة الفارقة
ثمة كلام عن أكثر من 150 مصنَّفاً أنجزَ. كلام آخر عن أكثر من 70 مخطوطاً يريد أن يتسلل منه نور قبض عليه. قد يراه البعض «ظلاماً» في أكثر من موقف مسبق؛ وإن لم ترَ المخطوطات تلك النور أثناء حياته وبعد رحيله. تلك الطاقة لم تكن لتتفجَّر وتنجز وتشاكس وتخرج على الناس بالمختلف في بعضها، لو أن مقاطعة أو عزلة مثل تلك لم تُقرَّر عليه؛ أو لم ينسجم معها بالانشغال والاشتغال الذي وجد نفسه فيه. سينهب وقته الناس والعلاقات. لا متسع من أفق لوقت كي يلتفت إلى ما تأجَّل من اشتغالات ومشروعات هي من صميم قدرات وطاقات رجل لم تأتِ موسوعيته من نسخ الكتب وقراءتها؛ بل بالاحتجاج على كثير مما جاء فيها، والارتياب، وعدم التسليم الشائع بما تخرج به على الناس.
أكثر من خمسين عاماً قضاها في التنوير من خلال المنبر الحسيني: الفضاء الأبرز، ضمن مجموعة فضاءات. لم يحُل ذلك بينه وبين تجلّي وتفتّح موسوعيته التي طرقت كثيراً من الأبواب والموضوعات. وأيضاً لم يخلُ بعضها من إشكالات جُرَّتْ عليه.
التنوع والريادة في التناول
حين وضع كتابه الضخم «الملابس والزينة في الإسلام»، وتم نشره العام 1999؛ رأى بعض أن الرجل أُحكمت عليه العزلة فصار يطرق موضوعات هي من قبيل «مضيعة الوقت»، ومحاولة ملء الفراغ الذي يعانيه! عن أي فراغ همس البعض؟ كيف يتسنى لرجل أنجز عشرات المصنفات، علاوة على الذي لم يرَ طريقه إلى النشر، مثل ذلك الفراغ. منهمكاً يظل في أكثر من مشروع في الوقت نفسه. قليلون هم أولئك الذين يملكون طاقة الإنشغال بأكثر من مشروع، وخصوصاً في الكتابة.
الكتاب المذكور تضمَّن معجماً للملابس القديمة، لم يستثنِ في تناوله ما يرتبط بالملابس، من الأحذية والخواتم والفصوص. «وأنواع العطور والورود المصاحبة للملابس. كما يحتوي على سيرة الملابس والزينة قديماً وحديثاً وفي الإسلام، وأنوع الملابس في الزفاف».
سيُنظر إلى رجل دين، والده القاضي المعروف السيد عدنان بن علوي بن علي بن عبدالجبار الثالث الموسوي (1882-1928)، في ما يحقق ويبحث ويتناول من موضوعات، ليست معهودة، أو هي مما تم حسمه، ولا يجب الاقتراب منها - مجرد اقتراب - عدا المعالجة الصادمة التي لا تلتقي مع السائد، أو المُحقَّق - إذا جاز استخدام مثل هذا التعبير - لطبيعة ما هو قائم من تكريس حال من اليقين الذي لا يجب أن يمسَسْه ريب السؤال والتساؤل! في السؤال والتساؤل واستجواب ما تم والتحقق منه فتنة، يرى فيها كثيرون أشد من القتل.
في البيئة تلك، وإن لم يبلغ مبلغ الرجال يوم أن رحل والده عن الدنيا. بيئة التسامح، والانفتاح على المختلف، لا الآخر، بما يتضمّنه توصيف «الآخر» من مدلولات مبطَّنة لما يقترب من الاستعداء أو عوائق الالتقاء في مُشترك، التقط ذلك التعاطي. وبالرجوع إلى جانب من السيرة سنقف على تلك الروح التي وعى عليها «التقى والده في أبريل/ نيسان 1927 وللمرة الأولى بمستشار حكومة البحرين بلجريف في بيت الحاج عبدعلي بن رجب. وعلى إثر هذا اللقاء نشأت بينه وبين بلجريف صداقة فصار يزوره في بيته في جدحفص برفقة كلّ من طبيب مستشفى الإرسالية الأميركية، ديم، وأحد كبار القساوسة في البحرين».
قراءة بلاد الله
بين الدراسة الحوزوية. قراءة بلاد مختلفة مثل الهند. فرصة الدراسة فيها. اللغة الإنجليزية التي لم يُعهَد تعلُّمها من قبل طلّاب العلوم الدينية في تلك الفترة المبكرة. كل ذلك أتاح له فضاء ورؤية وقدرة على الإمعان في قراءة البشر والمكان قبل الذهاب إلى القراءة سعياً وراء التحصيل العلمي.
بما تيسَّر من تحصيل علمي حوزوي، إلى جانب التعليم النظامي - وإن لم يقدَّر له الانتهاء منه - إلا أن منهجاً في النظر قد استجدَّ، ومثل ذلك النظر سيجرُّ عليه بعد سنوات سخْط كثيرين في البيئة التي ينتمي إليها، لكنه اختط لنفسه أن يكون مختلفاً وفارقاً فيما يرى ويكتب ويبحث ويحقق.
«تمرير الكتاب على العين»
وبالعودة إلى سيرة المحروس ذات وقت، تلك التي اقترب فيها من الرجل لمعرفة جانب من الكيفية التي بها تعامل بها مع عزلته التي انسجم معها لسنوات، بين مكتبته ومخطوطاته. منحه ذلك التنوع في الإمكانات فرصة الانتقال بين الأشكال والأساليب، وذلك يضعه ضمن من أوتوا حظاً عظيماً. نقف على تفاصيل في مباشرة كتابة السيرة يوردها لنا المحروس «لم يقل كلمة واحدة واستمر في تثبيت مقالة قطعها من صحيفة على ورق متين ليحتفظ بها. وضع كمية من الصمغ في فنجان صغير يأخذ منه برأس أصبعه ويمسح به أطراف الورقة. يقرّب الورقة من عينه، يتحسّس الزوايا ثمّ يعيدها على الطاولة. يفعل ذلك لضعف نال عينه اليمني فصار يتكئ على اليسرى عند القراءة؛ لذا تجد الكتاب أقرب إلى العين اليسرى طوال السطر. يمرِّر الكتاب على العين لا العكس. ينتهي السطر وتستعد العين اليسرى لسطر جديد. ينحني على طاولة صغيرة فلا يرفع رأسه مدة خمس ساعات أحياناً. وهو لا يتحرك حتى لو تزلزل المكان من حوله. وعلى الرغم من حاجته لنظارة طبية منذ سنوات طويلة، إلاّ أنّه لا يلبسها عناداً. فليس في مفرداته أن يتقوّى على العين. ألحّت عليه زوجته فلم يستجب. كان يقرأ الكتاب وكأنه سيدخل في عينيه. انظر إليه كيف ينتقل إلى السطر الثاني. صار يضع مرآة محدَّبة من الجهتين (مجهراً) عند القراءة، لكن لا يريد أن يضع نظارة».
ولد العدناني يوم الخامس من ربيع الأوّل سنة 1339هـ (29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1919) في قرية البلاد القديم.
توفيت والدته، جليلة بنت علوي المتعبد بن حسين القاري بن سليمان بن محمد الأنور القاروني بعد شهرين من ولادته، فتولت جدته لأبيه خاتون بنت السيد حسين - أم السيد كما يدعونها في قرية البلاد القديم - رعايته حتى توفيت العام 1947.
انتظم العدناني تلميذاً في المدرسة الأهلية المباركة العلوية في قرية الخميس. استمرت دراسته فيها عامين حتى بعد الإضراب الذي استمر ستين يوماً احتجاجاً على إبعاد عثمان الحوراني ويحيي الحموي. وبعد انتهاء الإضراب عاد بعض التلاميذ لاستكمال الدراسة ولم يعد العدناني. بدأ مشواره الحوزوي بعدها مباشرة وتوجّه للدراسة في الهند بدلاً من النجف الأشرف. تزوج بعد عودته وأنجب له 34 ولداً وبنتاً. كتب الكثير من الشعر في أغراض مختلفة، فصيحاً وعامياً، وألف العديد من الكتب في موضوعات مختلفة، ولم يتوقف عن قول الشعر، والكتابة حتى أيامه الأخيرة.
العدد 4520 - الأربعاء 21 يناير 2015م الموافق 30 ربيع الاول 1436هـ
جيمي هارت
الله يرحم السيد العدناني - ومشكور حبيبي جعفر على هذا المقال العظيم
استعراض تاريخي جميل
احسنت استاذ جعفر
رضي العجوز
رحمك الله سيدنا الغالي أبا عدنان .. ومثواك الجنة مع من كنت تتولاهم من دار الدنيا وهم أهل البيت الأطهار عليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام