قد يستغرب الكثيرون ما أقدمت عليه صحيفة «شارلي إيبدو» حين أعادت نشر صور جارحة لعواطف المسلمين بغاية السخرية من نبي الرحمة محمد (ص). لكنّي شخصياً كنت متوقعاً معاودتها نشر تلك الصور بعد حادثة الاعتداء على مقرها وما أسفرت عنه من ضحايا. وكأنّ التعاطف الدولي الذي اكتسبته فرنسا زيّن لأصحاب الصحيفة أن يؤكدوا على مبدأ حرية التعبير بالإيغال في المساس بالمقدس الإسلاميّ، وهو ما فجّر ردة فعل متفاوتة الخطورة من دولة عربية أو إسلامية إلى أخرى، وصلت حدّ سقوط القتلى وحرق الكنائس كما في النيجر.
وهكذا لا يولّد الغلوّ سوى الغلوّ، والفعل وردّ الفعل المضادّ قد يؤديان إلى سلسلة لا تنتهي من الأعمال الإرهابية. فما الحلّ؟ وهل يمكن لتصريحات البابا فرنسيس الأخيرة أن تكون قاعدة دولية مشتركة لضبط حرية التعبير في علاقتها بالمعتقدات؟
لقد مثّلت إعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية تهديداً للتضامن والتعاطف الدوليين مع فرنسا، كما أنها أحرجت ولا تزال تُحرج مجموعة الزعماء العرب الذين تزاحموا للمشاركة في مسيرة الجمهورية بباريس، وبعد صدور العدد الجديد من المجلة الأربعاء الماضي، تسابقوا لإعلان إدانتهم الصريحة نظراً لتجدّد الاستفزاز، بما تضمّنته المجلة في صفحتها الرئيسية من صور كاريكاتورية ساخرة. لكن، لا التعاطف ولا الإدانة يمكن أن تمثّل الحل الناجع لهكذا قضايا وإشكالات تهدّد السلم والأمن في العالم.
لقد بادر قداسة البابا فرنسيس بمشروع حلٍّ قوامه الدفاع عن حرية التعبير دون إساءة للأديان؛ حيث دافع البابا عن حرية التعبير لا لكونه حقاً أساسياً من حقوق الإنسان فحسب، وإنما أيضاً كواجب للتعبير عن الأفكار من أجل الصالح العام. وأضاف البابا فرنسيس في رده على أسئلة طرحت في مؤتمر صحافي حول حرية التعبير «إنّ ثمّة حدوداً لحرية التعبير لاسيما عندما تهين أو تسخر من دين شخص ما». واعتبر البابا أن حرية التعبير لا تعني إهانة معتقدات الآخرين، كما اعتبر أنّ من يتحدثون خطأً عن الديانات الأخرى أو يسخرون منها ويتلاعبون بدين الآخرين إنّما هم استفزازيّون، وفي المقابل دان البابا الجرائم المرتكبة باسم الدين وقال «لا يمكن الإهانة والقتل باسم الدين وباسم الله». وذكّر البابا مستنكراً بالمجزرة التي ارتكابها الكاثوليك بحق البروتستانت الفرنسيين في القرن السادس عشر الميلادي، وكل ذلك كان باسم الدين.
إنّ تصريحات البابا فرنسيس تمثّل موقفاً معتدلاً ومتقدّماً جداً، مقارنةً بغيره من المواقف الرسمية. ولعل أهميّته لا تكمن في كونه صدر عن أكبر رمز دينيّ في الغرب فحسب، ونعني طبعاً بابا الفاتيكان، وإنما تكمن أيضاً في كونه صدر في لحظة حاسمة من تاريخ التعايش بين الأديان في العالم.
والبابا فرنسيس، وبالعودة إلى أصوله وطريقة حياته ونمط تفكيره، يمثّل رمزاً دينياً استثنائياً في تاريخ الكنيسة الكاثوليكيّة، ومن ثمّ فإنّه من الوجاهة استثمار الفرصة وتوجيهها نحو استصدار قانون دوليّ يضع حدوداً واضحة في العالم إزاء مسألة حريّة التعبير فيما يتعلق بالأديان والمقدسات، خصوصاً أنّ موقف البابا يعتبر متناغماً مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومن ثمّة يمكن أن يكون باباً محتملاً وقاعدة ممكنة لتشريعات دولية تجرم التهكم من الديانات.
وفي المقابل، وفي باب استثمار الفرص أيضاً، من المفترض أن يوازي هذا الموقف البابويّ تحركُ علماء المسلمين نحو البحث عن الحلول السليمة لمعالجة ظاهرة الإرهاب باسم الجهاد وإلى الحد من غلواء الجماعات التكفيرية وترشيد الخطاب الديني نحو الوسطية السمحاء. صحيح أنّ القضية جدّ معقّدة وقد لا تكفيها النوايا الحسنة ولا التصريحات المنفردة، خصوصاً إذا تعلق الأمر بحقّ كفله الدستور الفرنسي لمواطنيه، كما هو الحال في دساتير بعض الدول الغربية الأخرى ممّن لا يرى لحرية التعبير حدوداً، وصحيح أنّ حرية التعبير كانت ولا تزال حلماً في العديد من دول العالم الثالث ولا سيما الدول العربية، وصحيح أن حرية التعبير لا حدود لها في فرنسا حتى لو تعمّدت السخرية من الرموز الدينية أيّاً كان مصدرها، غير أنّ الثابت أيضاً أنّ الموقف الذي صدع به البابا فرنسيس في الفصل بين حرية التعبير وإهانة معتقدات الآخرين قد لا يتكرر في التاريخ المعاصر، ومن ثمّة لا بدّ أن يستثمر لأنه، وببساطة، يصلح أن يتّخذ سقفاً لضبط العلاقة بين حرية التعبير في علاقته بالمعتقدات من أجل تعايش سلمي بين أتباع الأديان في القرن الحادي والعشرين.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4518 - الإثنين 19 يناير 2015م الموافق 28 ربيع الاول 1436هـ
كلام عاقل
«إنّ ثمّة حدوداً لحرية التعبير لاسيما عندما تهين أو تسخر من دين شخص ما».
الشيء من مأتاه لا يستغرب
قد يستغرب الكثيرون ما أقدمت عليه صحيفة «شارلي إيبدو» حين أعادت نشر صور جارحة لعواطف المسلمين بغاية السخرية من نبي الرحمة محمد (ص).
هل من تسوية دوليّة لحدود حريّة التعبير في علاقتها بالمعتقد؟
من الضروري أن يبحث هذا الموضوع ولا يكون إلا بضغط دبلوماسي عربي على المصالح الغربية في العالم
هذا لابدّ أن يكون واضحا لدى الجميع
«إنّ ثمّة حدوداً لحرية التعبير لاسيما عندما تهين أو تسخر من دين شخص ما».