قرأتُ مرة نكتةً تقول إن من آداب الضيافة اليوم أن تُقدم لضيفك عندما يزورك في البيت شاحناً للهاتف النقّال، وكلمة السرّ لشبكة الإنترنت. وقرأتُ قبل أيام تغريدةً لأحد الأصدقاء قال فيها إنه يرغب في التوقف عن استخدام الانترنت لأسبوع كامل إلا أن عمله يعتمد عليها.
وفي هاتفي مجموعة من البرامج التي أستخدمها بشكل يومي لأتعرف على العالم، وعندما أقول «العالم» فإنني أعني هذه الكلمة حرفياً. من هواياتي ركوب الدراجات الهوائية، ولذلك فإنني لا أكفّ عن مشاهدة مقاطع فيديو في «يوتيوب» عن آخر صيحات الدراجات، ثم أدخل أمازون أو إي بي، باستخدام تطبيقاتهم وليس مواقعهم الإلكترونية، لأشتري إكسسوارات لدراجتي. ثم أنتقل إلى تطبيقات القراءة كتطبيق بلينكست، أهيم فيها بعض الوقت، ثم إلى برامج التواصل الاجتماعي لأرى ماذا يقول الناس وماذا يكتبون. ثم تطبيقات الأخبار بمختلف أنواعها، ثم إلى برامج تقييم الأفلام السينمائية التي تُسلّيك بعروض الأفلام الدعائية.
إلا أنني لا أفعل ذلك وأنا جالس مع شخص ما، بل كثيراً ما أتجاهل الاتصالات والرسائل التي تصلني وأنا جالس في مجلس أو حتى في مقهى مع صديق أو قريب. ولا أحب أن أتحدث مع أحد فيقطع حديثي بالرد على هاتفه، دون استئذان، أو يعبث به، حتى وإن كان فعله ذلك لا إرادياً.
نسمع ونقرأ ونتحدث بين الفينة والأخرى عن المشكلات الاجتماعية التي سببتها التكنولوجيا في حياتنا، عن البلادة الإنسانية التي أصابتنا والبرود العاطفي. نكثر الشكوى منها تماماً كالذي يشتكي إدمانه المخدِّرات ثم يستمر في تعاطيها. ولكن، هل صارت التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي والتطبيقات الهاتفية حقّاً مُشكلة؟ هل انكبابنا على هواتفنا طوال اليوم، أو معانقتنا للآيباد طوال المساء هي عادة سيئة؟
كنا نتضايق أنا وزوجتي من كثرة استخدام أطفالنا للآيباد، لكن عندما قدمنا لهم بدائل أخرى وبدأوا يمارسون أنشطة بدنية وفنية اضمحلّ ذلك الضيق، وشعرنا – إلى حد ما – أن هناك اتزاناً في أنشطتهم اليومية. لكنني لاحظتُ، عندما أتحدث مع أحدهم في أمر ما، أن استيعابه لكلامي صار أفضل. ما عدتُ أُبسّط الجُمَل التي أستخدمها في الحديث معهم، وصرتُ أفترض، عند الحديث عن شيء ما، أنهم قرأوا عنه في الانترنت.
أجلس معهم أحياناً وهم يلعبون في الآيباد وأطلب منهم شرح ألعابهم لي، فأكتشف أن معظمها ألعاب إبداعية. يبنون بيوتاً، يرسمون لوحاتٍ، يُربّون حيوانات ويختارون لها الطعام المناسب والمسكن المناسب وطريقة الأكل المناسبة. عالمٌ مليء بالإبداع والأفكار والألوان والأصوات، فأسأل نفسي: هل الآيباد حقاً مضر للأطفال كما يقولون؟
لي صديقٌ يقرأ بنهم شديد، لا يفوته خبر أو مقال إلا وقد مر عليه. يفاجئني بسعة اطلاعه على مجريات الأحداث اليومية، حتى اكتشفتُ أنه يفعل ذلك باستخدام الآيباد الذي ينكب عليه لساعات طويلة، يقرأ الأخبار والمقالات ويشاهد مقاطع فيديو معرفية ويتحاور مع كُتّاب وأخصائيين، دون أن يقوم من على مقعده.
أعرف كثيرين برزوا في المجتمع من خلال «إنستغرام»، ومؤخراً في برنامج «سناب شات». صاروا مشاهير، مؤثرين، معروفين، ليسوا كلهم، لكن كثيراً منهم يقدّم مادة جيدة للمراهقين على وجه التحديد. وآخرون يبيعون سيارات، أو تحفاً قديمة، أو مأكولات وحلويات، أو ساعات وعطورات وبخوراً، كلها على «إنستغرام». أغلبهم ناجحون واستطاعوا أن يصنعوا لأنفسهم شركات فردية صارت مصدر دخل إضافي في حياتهم.
وفي هاتفي أستخدم تطبيق «واتساب» كثيراً للتواصل مع فريق العمل في المكتب، ومع فريق ما قل ودل، ومع أصدقاء من مختلف دول العالم. لا أحُبه كثيراً لأنه يستنزف وقتي، لكنني أشعر الآن أنني مستعد للدعاء بدوام الصحة والعافية لمخترع البرنامج الذي وفرّ عليّ كتابة عشرات الرسائل النصية و»الإيميلات» وإجراء عشرات المكالمات التي كانت ترهقني على مدار الساعة.
لماذا إذاً نشتكي من التكنولوجيا ونشتم ونلعن وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية؟ لماذا نريد العودة إلى زمن هواتف المنازل ونَحْنُ اليوم نختصر الزمن والمسافة في قضاء حوائج الحياة وفي الاستزادة من المعرفة؟ إن الواقع الجديد جميل، ومفيد، وبنّاء، لكن مشكلتنا أننا لا نعرف ما نريد، نَحِنُّ إلى الماضي، نشتم الحاضر، ونشتاق إلى المستقبل، ثم نسمّي التطور الحضاري الذي وصلنا إليه «مرض حضاري» ونبحث عن علاج له!
عندما أستشعر كل هذه النعم التكنولوجية أحمد الله تعالى أن أصابني بهذا المرض الذي عرّفني على أناس ما كنتُ أدرك أن مثلهم موجود، وأشكره ألف مرة لأنني استطعتُ أن أكتب هذا المقال في هاتفٍ ذكي، صار نافذتي على العالم، يدفعني للبحث والتساؤل، للضحك والتمعّن، ولأشياء جميلة كثيرة، كل ذلك وأنا مستلقٍ على سريري، أو جالس أنتظر طائرتي في قاعة المطار.
إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"العدد 4515 - الجمعة 16 يناير 2015م الموافق 25 ربيع الاول 1436هـ
منطقي
كلام منطقي وجميل بارك الله فيك