في حواري مع عبدالرحمن النعيمي، كان يكرّر نقد الثقافة المركزية الأوروبية حيث يتم الاستحواذ على الثروة والسلطة والعلوم والتكنولوجيا والسلاح والآداب والفنون والعمران، ودورها السلبي على الهوّيات الطرفية أو بلدان الجنوب الفقير، لاسيّما المتعددة الأعراق والأديان، إذ سرعان ما تندلع الصراعات التي يتم تغذيتها دولياً، بضرب ثقافةٍ بأخرى، واندلاع العنف واحتدام الصراع وتباعد المشتركات حيث تكبر الفجوات، وهو ما تستفيد منه القوى الكبرى والمركزية الأوروبية بتشجيعها الصراعات بشأن الهوّيات في البلدان النامية.
وبمثل هذه النظرة الواسعة قدّم قراءات نقدية لفكرة «نهاية التاريخ» لفرانسيس فوكوياما و»صدام الحضارات» لصموئيل هنتنغتون، مثلما توقفنا طويلاً أمام بيان المثقفين الأميركان الستين وحاولنا إجراء اتصالات مع مثقفين آخرين لمواجهة البيان الحربي الثقافي الأميركي، وكان لنا حديث مع اتحاد الكتاب العرب ومثقفين آخرين.
وثمة سؤالٌ وجهته للنعيمي: كيف يمكن الحفاظ على الهوّية؟ واتفقنا بعد حوار مطوّل على إن أساليب القمع والطغيان لا يمكنها الحفاظ على الهوّية، مثلما أن الانعزال والانغلاق لا يساهم في بعث الهوّيات الفرعية، والعكس صحيح، أي أن الحفاظ على الهوّية يتم بالتفاعل والتواصل والتعدّد والانفتاح، وهكذا فإن الإنسان يحمل أكثر من هوّية، وهو ما كان يشعر به النعيمي، فهو بحريني قلباً وقالباً، وعماني ويماني ومصري وسوري وعراقي، وقبل كل شيء هو فلسطيني روحاً ووجداناً.
وكان قد سألني بحكم بقائي عدداً من السنوات في المنفى الأوروبي: كيف تحافظ على الهوّية في المنفى وفي ظلّ التداخلات الكثيرة، لاسيّما وأن ثمة جوانب إنسانية، بحيث لا تستطيع منع التأثير فيها؟ قلت وأنا منتمٍ إلى بغداد ولكنني أجد نفسي موزعاً بين دمشق وبراغ وبيروت وهكذا. ولعلّ الشعور يكون قوياً في الغرب، ولكن جيلنا ظلّ أكثر تمسكاً بجذوره من الأجيال التي لحقتنا، ولاسيّما الجيل الثاني. ونقلت له حواراً أداره المنتدى الأورومتوسطي حول الشمال والجنوب في الرباط في أكتوبر/ تشرين الأول العام 2000 وحضره نخبة من المثقفين، حين قال أسامة الشربيني في معرض معالجته لازدواجية الهوّية: حين أكون في الغرب أشعر بأنني مغربي، عربي ومسلم، وحين أكون في بلجيكا أشعر بأنني بلجيكي وجزء من المجتمع الأوروبي. تلك مسألة إنسانية ناقشها النعيمي بانفتاح ورحابة صدر، وهو أمرٌ استعاده خلال زيارته إلى لندن لحضور جلسة للبرلمان البريطاني تضامناً مع الشعب البحريني في نهاية التسعينيات وتحدث فيها اللورد أيفيري أيضاً.
وكان الجدل هل المكان يحدّد الهوّية؟ أم إن الهوّية التي تكوّنت بحكم اللغة والدين أكثر ثباتاً من غيرها، أما العناصر المتغيّرة فهي الآداب والفنون والعادات الجديدة التي تؤلف ثقافة جديدة أو تضيف إليها، والأمر يتعلّق بدرجة الوعي والنضج والمعرفة والاستعداد للتكيّف والاندماج، وقد يكون لكلٍّ منّا أكثر من هوّية، لاسيّما إذا أخذنا بنظر الاعتبار ماذا نعني بالهوّية، وتلك مسألة إنسانية لا تأتي بقرار، وإنما تتكوّن عبر إحساس الإنسان وشعوره بالانتماء.
قلت له لا هوّية خارج الإنسان بوصفه إنساناً أولاً ويدفع الذات إلى ابتكار أشكال جديدة لفهم الآخر، ثانياً، وثالثاً يكشف لنا إن الهوّية ليست معطىً جاهزاً ونهائياً، وإنما هي تحمل عناصر بعضها متحرّكة ومتحوّلة على الصعيد الفردي والعام، وهو ما يجب إكماله واستكماله في إطار منفتح بقبول التفاعل مع الآخر، وهكذا فإن اختلاف الهوّيات هو أمر طبيعي سواءً داخل الوطن الواحد أو خارجه، إذا قاربناها من زاوية إنسانية تتعلق بالحق أولاً، ومن ثم بالتنوّع والتعددية ثانياً.
تطوّرت نظرة النعيمي بخصوص حقوق «الأقليات»، وهو ما أطلقُ عليه «حقوق المجموعات الثقافية» أو المجتمعات المتعددة الثقافات، لأن كلمة الأقليات تحوي في داخلها على الانتقاص من الآخر واستصغاره، بينما كلمة المجموعات الثقافية أو المجتمعات التعددية، تفترض المساواة، حتى وإن كان «إعلان حقوق الأقليات» الصادر العام 1992 قد جاء من عنوانه ليقول عكس ذلك، وليأخذ بالشائع الغالب، أي استخدام مصطلح الأقليات.
لابدّ من عناصر لهذه الهوّية جوهرها يكمن في المواطنة والحقوق، وعندما نقول المواطنة فهي تعني الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة، وهي أمور انعكست في جدل الهوّيات الفرعية – الجزئية أو من خلال الهوّيات الأوسع والأكبر.
كان النعيمي يؤكد في أكثر من مناسبة، أن لا مرجعية فوق مرجعية الدولة، حتى وإن كنّا نعارضها ونختلف معها، لأنه بدونها سنعود إلى مرجعيات تقليدية أي ما قبل الدولة، وأعتقد أن كلامه كان عميقاً واستباقياً، وقد بلور هذا الرأي بعد عودته إلى البحرين، وكان والشيخ علي سلمان رئيس «جمعية الوفاق»، وكذلك مع «المنبر الديمقراطي»، يعملون على هذا الأساس. وأعتقد أن هذا الرأي ظلّ سائداً في أوساط الحركة السياسية البحرينية بمختلف تياراتها، حتى وإن تدهورت العلاقة ما بين السلطة والمعارضة.
وقد كشفت تجربة الربيع العربي، أن ضعف أو تفكك مرجعية الدولة، سيقود إلى الفوضى والعنف وتعدّد المرجعيات وغياب سيادة القانون، والأمر كان صارخاً في التجارب العديدة، سواءً في ليبيا أو العراق أو اليمن أو حتى مصر وتونس، حيث ظهرت مرجعيات مجهرية سواءً كانت دينية أو طائفية أو مذهبية أو عشائرية أو مناطقية أو جهوية أو عائلية، واتخذ الصراع بُعداً استئصالياً، لاسيّما في ظلّ أمراء الحرب القدامى والجدد.
إن عدم الإقرار بالتنوّع الثقافي وبحقوق المواطنة كاملة وتجاهل التعددية، سيفضي إلى تعميق الصراعات والانقسامات والتناقضات داخل كل مجتمع، وذلك -حسب النعيمي- واحدة من نواقص الدولة العربية المعاصرة، وقد ذهبت بعضها إلى قيام وحدات قسرية أو فوقية أو أوامرية أو تسلطية، لبعض الفئات على حساب فئات أخرى، وهذا نجم عنه -وحسب النعيمي- نتائج خطيرة وضارة في البحرين، قادت إلى استعلاء ومحاولة فرض الرأي بالقوة، ويعود ذلك إلى غياب أو ضعف المواطنة السليمة التي تأخذ بها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، التي تقر بالمساواة وعدم التمييز وعدم الاعتراف بالتفوق أو الهيمنة. وهو ما يطلق عليه الحق في الهوّية الثقافية للجماعات المختلفة التي ينبغي احترامها دون إهمال العوامل المشتركة ذات البعد الإنساني وقيم التعايش والتفاعل والوحدة.
كنت قد سألته: وأين تضع تجربة مجلس التعاون الخليجي؟ وهنا استذكر الموقف الأول للجبهة الشعبية لتحرير البحرين، فقال لقد عارضناه عندما أعلن عن تأسيسه في 25 أيار/ مايو 1981، واعتبرناه محاولة سياسية لتطويق الحركة الوطنية في الخليج وإجهاض التجربة اليمنية الجنوبية «الوليدة» عبر حشد قوى وإمكانات الخليج، ناهيكم عن وجود قواعد عسكرية متعددة، لكن تطور الأحداث جعلنا ننظر إليه نظرةً أكثر واقعيةً، من خلال رؤية المصالح المتبادلة والمنافع المشتركة، حيث بدأت تنشأ علاقات اقتصادية وتجارية وثقافية تطوّرت بحكم التجربة، بما فيها حرّية التنقل والحركة، وإن كانت بطيئة وحذرة.
وعدت لسؤاله: هل يمكن أن يتطوّر المجلس ليكون نواةً لمواطنة خليجية على غرار الاتحاد الأوروبي، حيث يسمح بحرية التنقل وحق الإقامة وتقارب المناهج التربوية وبعض القوانين المشتركة وسياسات موحدة على الصعيد الخارجي؟ فقال إن أمله أن يتحقق ذلك، لكن التراكم على هذا الصعيد لا زال محدوداً جداً، والهاجس الأمني عالياً، وقد يحتاج الأمر إلى تعاون وتنسيق خليجي على المستوى الشعبي لتطويره ليصبح كياناً اقتصادياً وسياسياً مؤثراً، وذلك يحتاج إلى مواطنة سليمة أساسها الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة ونحن بعيدون عنها.
ولم ينس في التعبير عن مخاوفه إزاء محاولات التشطير الداخلية والانقسامات الطائفية وتفتيت الدولة الوطنية، واختتم هذا المفصل بالصراع العربي- الإسرائيلي الذي دون حلّه لا يمكن تحقيق التنمية المنشودة والتطور الديمقراطي في الوطن العربي.
حاورته بعد تخلّيه عن قيادة جمعية العمل الوطني الديمقراطي، فقد كان في غاية السرور وهو يعلن عن تقديم استقالته، وشاهدت وأنا ألقي لأكثر من مرة محاضرة في الجمعية وفي مهرجاناتها المتكررة، أن صاحبي ازداد تألقاً وهو يزيح عن كاهله المسئولية لينسجم مع نفسه ويتعامل بصدقية المناضل النزيه أينما كان موقعه، مثلما شاهدت حب واحترام البحرينيين بمختلف توجهاتهم لعبدالرحمن النعيمي، ليس لأنه تعرّض إلى ما تعرّض له في غيبوبته الرهيبة، بل خلال حياته، ولمست ذلك من الحكومة بأعلى مراتبها ومن المعارضة بمختلف توجهاتها، وهذا الأمر تابعته خلال زيارتي للبحرين بدعوة من مركز الخليج لإلقاء محاضرة خلال اشتعال الانتفاضة في التسعينيات، وكان قد شجّعني على تلك الزيارة، بل واعتبرني رسولاً في أية مبادرة إيجابية، حين قال إننا سنقابلها بكل جدية ومسئولية.
ظلّت هوّية النعيمي واسعة ومتعددة، حتى وإنْ ضاقت وانكفأت هوّية الغير. بينما كانت هويته لا تقبل الآخر فحسب، بل تتفاعل معه في إطار إنساني، وإنْ سعت للحفاظ على خصوصيتها، فلكي لا تفقد جوهرها وتميّزها، وبذلك تضيع معالمها وتتضبب ملامحها، فقد كان انفتاحها دون انفلات، بحيث يؤدي إلى ضياع صورتها وصيرورتها.
الخصوصية لا تعني الانغلاق أو الانكماش على النفس، مثلما لا يعني الانفتاح، التماهي والتشتت وإلغاء الحدود مع الآخر كليّاً، لأن ذلك سيؤدي إلى طمس معالم الهوّية ويفقدها كينونتها، أما الانغلاق فسيعني قطع الطريق على التفاعل مع الآخر، من خلال تضخيم الذات. وفي كل الأحوال فإن ذلك سيؤدي إلى إضعاف المواطنة، إحدى الركائز الأساسية للدولة العصرية التي آمن بها النعيمي، وأي إضعاف للدولة سيؤدي إلى ارتخاء أركانها ومفاصلها، وبالتالي سيقود إلى تشجيع الصراع وتقوية عوامل النزاع بين الهوّيات، سواء في داخل البلد الواحد، أو في إطار أوسع.
لم ينظر النعيمي للهوّية باعتبارها مظهراً آيديولوجياً، لدرجة تصبح فيه طائفة أو دين أو قومية منغلقة هي المعيار الذي يجري الاحتكام إليه، كما إنه لم يعتمد بعض المظاهر الشكلية على أهميتها، لأنها جزء من طرائق عيش الإنسان وهذه غير كافية للتعبير عن الهوّية، كالثياب مثلاً أو الأزياء الخاصة أو بعض الشعائر والطقوس الدينية أو الاجتماعية أو نوع الأكل أو غير ذلك.
كان أساس الهوّية لدى النعيمي اللغة والدين، فهما الأكثر ثباتاً، فحتى مسيحيو الشرق تأثروا بالإسلام، وهو جزء من حضارة المنطقة ككل، أما العادات والتقاليد والفنون والآداب، فهذه جزء من المتغيّرات التي تحصل عليها بالتراكم والتفاعل والتداخل مع حضارات وهوّيات أخرى، تأخذ منها وتتلاقح معها وتضيف إليها، وتحذف ما يتجاوزه الزمن.
كان يستوقفنا ما حصل من حروب في المنطقة، لم تكن بعيدة عنها هوّيات تريد إركاعنا وأخرى تسعى للمقاومة، الأولى تريد اقتسام الغنائم وترسم خرائط التقسيم، والثانية لاتزال متشبثةً بالأرض والرفض والتحدي، وتلك عناصر الإعاقة حتى وإن اختلّت موازين القوى. (انتهى).
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسين شعبان"العدد 4515 - الجمعة 16 يناير 2015م الموافق 25 ربيع الاول 1436هـ