دعنا نتفحًّص ما جرى في باريس بمنطق هادئ وتوازن حقوقي، وهذا ما تحتاج باريس أن تفعله أيضاً.
فأولاًً: بالنسبة للحدث، فإن قتل رسّامي صحيفة «شارلي إيبدو» الفرنسية كان جريمة نكراء وهمجية بشعة في ممارسة الاختلاف مع الآخرين، لا تقرّها شرائع السّماء ولا القوانين الإنسانية، إضافةً إلى أنها حماقة سياسية مشبوهة الأهداف.
لكن الموضوع يجب أن لا ينتهي عند اللّوم والشجب والاستنكار. إنه موضوع له جوانب متعدّدة تحتاج إلى أن تطرح بصراحة تامة.
وثانياً: فإن تلك الصحيفة تمارس ما يعرف باللغة الفرنسية (satire)، وهي كلمة تعني الهجاء والقدح والتهكّم والسُخرية. وهذا أسلوب في التعبير، سواءً أكان بالكتابة أو الرسم أو التمثيل أو النكتة، له ما له وعليه ما عليه. فمن أجل أن تكون السُّخرية لاذعة ومؤلمة يمارس الهجّاء المتهكّم المبالغة في التعابير الجارحة الموجعة، واستعمال رذيلة الكذب والدسّ والغمز واللّمز الحقيرين. وإذا كان الإنسان العربي يريد أن يعرف القيمة الأخلاقية الذميمة لممارسة الغمز واللمز في ثقافتنا، فيستطيع أن يراجع ما قالته النصوص القرآنية وما قاله التراث الإسلامي بشأن رذيلة الغمز واللّمز، بما فيها التعرّض لعقيدة الآخرين الدينية.
وثالثاً: دعنا نراجع بعض ما قاله التراث الفكري والأدبي الغربي نفسه بشأن مخاطر هذا الموضوع وملابساته. فالشاعر الإيرلندي السّاخر جوناثان سويفت كتب في أوائل القرن الثامن عشر وصفاً ساخراً للهجاء بأنه نوع من المرآة التي تعكس وتكشف وجوه كل الناس الآخرين، ولكنها تستثني وجوه أصحابها.
والتراث الغربي مليء بنقد التعابير الهجائية (satire)، إذ يجدها تعابير سلبية، كثيراً ما تكون مليئةً بالكراهية وقلّة الذوق وتجريح الآخرين، لأنّ مستعمليها لا يضعون لها حدوداً لا يجب أن تتخطّاها. وهناك تاريخ أسود للكاريكاتير الغربي الذي ألصق خاصية الأنف المعقوف باليهودي، والوجه الأسود ذي العيون المبحلقة البلهاء بالزّنجي، والفم المفتوح المظهر لسنّين بارزين قبيحين للصّيني. ولم تسلم المرأة من بروزتها في صور كاريكاتيرية شتّى تحطُ من قيمتها وكرامتها. أما الكاريكاتيرات المستهزئة بالعربي والمسلم، فقد أصبحت أقصر طريق لترويج بيع هذه الصحيفة أو تلك، في هذه المدينة الغربية أو تلك.
وبالطبع فإن كل ذلك لا يعني أن لا مكان للتعبير الهجائي في الاجتماع الإنساني، إذ كثيراً ما كان آخر المطاف للشعوب المقموعة المغلوبة على أمرها، للتعبير عن مظالمها من خلال نكتة لاذعة أو كاريكاتير، دون أن تصطدم مباشرةً بالطغاة والمستبدّين.
ورابعاَ: هناك إشكالية حرية التعبير التي يتعلل بها البعض لتبرير التعايش مع مبالغات وتعدّيات بعض أنواع التعبير الهجائي. سنكتفي هنا بما قاله الكاتب الأميركي السّاخر مارك توين، من أن هناك قوانين تحمي حرية الصحافة، ولكن لا توجد قوانين لها قيمة ووزن لحماية الناس من الصحافة. وأيضاً بما قاله الصحافي البريطاني الساخر هانن سوافر من أن حرية الصحافة في بريطانيا تعني حرية طبع شتّى التعابير المنحازة والمتعصّبة من قبل أصحاب الملك والسّطوة طالما أن المعلنين في الصحيفة لا يعترضون عليها. وأيضاً بما قاله أحدهم من أن الحرية هي الحق في أن تكون أحياناً مخطئاً وليس الحق في أن تتعمّد فعل الخطأ.
وخامساً: وعلى ضوء النقاط السابقة، هل إن التعابير الكاريكاتيرية الساخرة الحقيرة التي أظهرت نبي الإسلام في أوضاع أقرب إلى أن تكون جنسية مبتذلة قاصدةً جرح كرامته وعفّته وبالتالي رسالته... هل كان ذلك تصُّرفاً حكيماً يندرج في خانة حرية التعبير المتوازن الرّاغب في إصلاح الحياة البشرية؟ أم إنه كان حماقةً صحافيةً لا تعطي أيّ وزن ولا حساسية تجاه مليار وستمئة مليون من البشر المسلمين؟
بعد أن يهدأ صخب هستيريا المظاهرات المليونية في باريس، وبعد أن يبتعد عن المسرح انتهازيو السياسة في الغرب وتابعوهم من المولولين في أرض العرب والإسلام، سيحتاج العقلاء والموضوعيّون في فرنسا أن يجيبوا على ذلك السؤال. وبالنسبة لي فإنني واثقٌ بأنهم سيفعلون، فتراثهم الفكري المبهر شاهد على ذلك.
وسادساً: هناك أسئلة تتعلق بالدور الذي تلعبه بعض الاستخبارات الغربية والصهيونية بالنسبة لاستعمال مجانين الجهاد التكفيريين من أجل افتعال حوادث مفجعة مثيرة للسُّخط والغضب والكراهية، من مثل ما حدث في باريس مؤخراً، وما حدث سابقاً في نيويورك في سبتمبر 2001، بل وما يحدث في أرض العرب من حوادث حقيرة تهدف إلى إثارة الانشقاقات الطائفية والعرقية والقبلية والسياسية.
وسابعاَ: أن تسير الملايين في الشوارع وتنشغل وسائل الإعلام الغربية ليل نهار احتجاجاً واستنكاراً وحزناً لموت سبعة عشر فرنسياً، فهذا تعبيرٌ مبهرٌ عن التضامن البشري ضد الإجرام والبربرية، ولكن أن يقتل الجيش الصهيوني أكثر من ألفين من أطفال ونساء وشيوخ وشباب غزّة المحاصرة المنهكة؛ وأن يمارس الاغتيال الفاجر يومياً؛ وأن يموت المئات يومياً في أرض العرب والمسلمين على يد بعض أجهزة الأمن العربية وعلى يد جماعات إرهابية تدرّبها وتسلّحها وتموّلها بعض دوائر الغرب الاستخباراتية، ثمّ لا يكاد يرى الإنسان أكثر من رد فعل رمزي في شوارع ومنابر إعلام الغرب، فإن ذلك تعبير عن غيابٍ محزنٍ للتضامن البشري، وسقوط مخزٍ لحمل مسئولية الشعارات الإنسانية التي ادّعى الغرب بأنّ موجات أنواره الحضارية جاءت عبر ثلاثة قرون لنشرها وترسيخها من أجل الإنسانية كلها.
مظاهرات باريس وعواصم الغرب المبهرة، ذكَّرتنا مرةً أخرى بأن الرأي العام الغربي المضلّل، مع الأسف، معنيٌ بحريّة وسلام وتقدُّم مجتمعاته. أمّا حرية وسلام وأمان وتقدُّم المجتمعات الأخرى، التي تتآمر عليها جيوش ودوائر حكم وجحافل استخبارات بلدانه فليس هذا من شأنه.
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 4514 - الخميس 15 يناير 2015م الموافق 24 ربيع الاول 1436هـ
احترام الاديان
حرية التعبير يجب ان لا تتطرق للاستخفاف بالديانات السماويه وبالرسل وللانبياء الذين اصطفاهم الله وجعلهم رسل للامه لهداية الناس وتوجيهم للطريق السليم. وهذا التوجه لابد ان يسن له قانون.
رد واف شاف ومفحم ..حبذا لو ان دكتور علي اعاد كتابته باللغة الانجليزية وارسلت نسخ من المقال
الي السفارة الفرنسية ومن ثم الخارجية الفرنسية والي مجلس حقوق الانسان التابع لمنظمة الامم المتحدة والي مجلس الاتحاد الاروبي والي بقية منظمات حقوق الانسان في العالم ليعلموا ان حرية التعبير لا تعني التهجم علي مقدسات الاخرين. لا ننس ما فعلته فرنسا في الجزائر بلد المليون شهيد، كتب التاريخ تذكر لنا ان فرنسا اعدمت عام 1961م 200 مناضل جزائري أمام برج إيفل وحتى يومنا لم تعتذر عن هذه الجريمة ونذكر أخيرا ان مجلة شارلي ابيدو تحولت الي منبر موال للصهيونية تحط من كرامة العرب وخاصة الفلسطنيين وتحقد علي الاسلام
اصبت في صميم
اصبت في صميم يا دكتور هناك كثير من ادلة من قبل مفكرين الغربية بان هناك خفايا كثير في جريمة الذي وقعت في باريس انها نسخة ثانية من احداث احداث 2001 وللاسف المسلمين دائما متهمون بسبب بعض جهلاء ودم العربي ومسلم اصبح من ارخص اشياء لديهم كل كم سنة وتمثيلية جديد من غرب لشفط موارد المسلمين وبخصوص الخليج
القراءة المقلوبة
منذ بداية تأسيس ملامح الدولة العربية وبداية نكبة فلسطين ، لا شيء استطعنا نحن العرب أن ننجح فيه بأمتياز إلا شيء واحد فقط ، يتمركز في قدرتنا على تحويل أو ألقاء أسباب عجزنا وتخلفنا على الغير أو تصديره للخارج..خراب بيوتنا من صنع أيدينا وجزء من أرث الاستبداد الموروث والمترسب عبر قرون في خلايا عقولنا ...مع التحية
عبد علي البصري
ابي اعرف كم رصاصه اطلقت على الصحيفه في فرنسا , وكم سياره فجرت في العراق ؟؟؟ ايهما اهم بالشجب والاستنكار ؟؟؟
وكم
وكم ليبي ،باكستاني،افغاني وفلسطيني وكم من مسلمين بورما يقتلون يوميا واعتقد انهم ليس في خريطة
لُدغنا من الجحر مرتين
لا شك أنَّ الجريمة قد تمت بأيد عربية مسلمة " مجانين الجهاد التكفيريين". لكن بعد الذي أكدته سوزان لينداور في كتابها " الإجراء الأقصى extreme prejudice " عن 11 سبتمبر، يجب البحث عن المخطط الحقيقي. هذا هو نفس سيناريو 11 سبتمبر في التخطط و التنفيذ و النتائج. وسيكون الأوان قد فات إذا خرجت ثانية سوزان لينداور جديدة لتخبرنا ماذا فعل المشيب!
ازيدك من الشعر بيت
يجب على العالم كله ان يعرف انه لا يمكن لاي مسلم ان يرضى بان يتم الاستهزاء بالرسول الكريم او اي رمز ديني مهما كانت الدوافع...(اللا رسول الله.)..نعم الرسول خط احمر..وكذلك المقربون من الرسول الكريم و رجال الدين....لا يجوز الاستهزاء بالدين او بمن ينتمي للدين.وانتقدوا من شئتم دون ذلك. الغرب وغير الغرب يجب ان يعرفوا هذا...هذه ليست حرية تعبير او راي عام..هذه مباديء نحن نؤمن بها كل الايمان.ومستعدين لفعل اي شي للدفاع عن هذه المبادئ
أن الرأي العام الغربي المضلّل، مع الأسف، معنيٌ بحريّة وسلام وتقدُّم مجتمعاته.
مظاهرات باريس وعواصم الغرب المبهرة، ذكَّرتنا مرةً أخرى بأن الرأي العام الغربي المضلّل، مع الأسف، معنيٌ بحريّة وسلام وتقدُّم مجتمعاته. أمّا حرية وسلام وأمان وتقدُّم المجتمعات الأخرى، التي تتآمر عليها جيوش ودوائر حكم وجحافل استخبارات بلدانه فليس هذا من شأنه.
عرب ام اعراب
لماذا الدم العربي رخيص لهذه الدرجة؟ في نظر الغرب وفي نظر معظم العرب أنفسهم!
اعجبتني كلمه تابعوهم
تابعوهم من المولولين في أرض العرب والإسلام
أنكأت جراحهم
كلماتك يجب أن تكتب بماء الذهب فلك في كل أمر حضور مميز ومعالجتك لحادثة باريس تثبت ضرورة مراجعة الجميع حساباتهم ومواقفهم ولا ينعقون وراء كل ناعق ويستخدمون كمطية ثم يرمون في سلة النسيان لحادثة أخرى بفتعلونها أو يسهلون وقوعها بما يخدم مصالحهم ولكن ماى يتعظ إخواننا ومن حولنا ولا يكونوا كما قال القرآن كالحمار يحمل أسفارا.
قلم حر
ممتاز تحليلك يادكتور.. أصبت كبد الحقيقة