عاشت باريس بِمِليُونَيْهَا وربع المليون إنسان أياماً صعبة. في يوم الأربعاء، شَنَّ رجلان هجوماً على مجلة «شارلي إيبدو» الأسبوعية فأردَيَا اثني عشر شخصاً بينهم خمسة من أشهر محرريها ورساميها قتلى، وجَرحِ سبعة، أربعة منهم في حال حرجة. وما إن بدأت المطاردة، لإلقاء القبض على الشقيقيْن شريف وسعيد كواشي، حتى قام المذكوران بعملية احتجاز لرجل في مطبعة بمنطقة دامرتان أون غويل، وبالتزامن مع ذلك قيام آخر اسمه أحمدي كاليبالي باقتحام سوبر ماركت لتاجر يهودي بمدخل العاصمة.
الحقيقة، أن هذه الأحداث، قد أُشبِعَت رصداً وتحليلاً. وسيستمر النقاش حولها، في الوقت الذي تخطو فيه فرنسا خطوات باتجاه سياسات داخلية مختلفة بعد هذه الأحداث. لكن ذلك الرصد وذلك التحليل المتلاحق من وسائل الإعلام ومن المحللين السياسيين والأمنيين، لا يمنحنا سوى معلومات «جنائية» وكأننا نتابع فيلماً بوليسياً.
إذاً، ما هو المهم في الموضوع. باعتقادي، أن القضية الأساسية، هي ضرورة فهمنا لفرنسا كبلد ومجتمع، له تاريخ مختلف، وأحداث مختلفة، جعلته محوراً أساسياً في التفكير الأوروبي والأميركي، منذ 226 عاماً، وبالتحديد في مجال «تحديث العقل الغربي».
فرنسا، أو «الجمهورية» الفرنسية، ارتبطت جداً بالحالة الجمهورية وسط الممالك. شعارها الوطني: حرية ومساواة وإخاء. تاريخياً، يتذكر العالَم «كل العالم» الثورة الفرنسية العام 1789. ويتذكر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وقضايا الدستور والدولة والجمهورية.
هذا في مجال الحقوق والحريات، أما في مجال التنوير، فإن العالم يتذكر جان جاك روسو وفولتير ومونتيسكيو، وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين الذي أثَّروا في عصر الأنوار، ثم قراءة جمهورياتها الخمس. هذا هو جوهر فرنسا الذي يجب أن نقرأه كي ندرك أحوالها اليوم.
من الكتب الرائدة، التي يمكن للمرء أن يقرأها لفهم فرنسا هو ما كتبه المؤرخ الكبير فرنان بردوْل والذي عنونه بـ «هُويَّة فرنسا». الكتاب ضخم حيث يضم 1190 صفحة من القطع الكبير، وقد قسَّمه المؤلف على ثلاثة مجلدات تناولت موضوعات شتى.
المجَلَّد الأول خصَّصه للحديث عن مكان وتاريخ فرنسا، وتفسير تنوعها والمعادلات الاجتماعية فيها، كاللهجات والأسماء والأنثروبولوجيا الثقافية والبُنية العائلية. كما يتحدث عن تماسك الاستقرار، مروراً بتنوع الجغرافيا وشكل المهن القائمة فيها.
أما المجَلَّد الثاني، فقد خصَّصه بردوْل لمناقشة الناس والأشياء، بما فيها الأجسام، والتحقيب منذ العصر الحجري إلى الزراعي، مروراً بفتح الرومان لـ «غاليا» وغزوات البرابرة، ووضعها من القرن العاشر حتى اليوم، ثم رصد حالات المواليد والوفيات والتطور العلمي.
في المجَلَّد الثالث، يواصل بردوْل استعراض أوضاع المجتمع الفرنسي، والبُنى التحتية الريفية، والخصائص العامة لأدق الأمور كالمروج والمحاصيل والماشية، وطُرق العيش التي كانت سائدة لدى الفرنسيين، وأشكال الاندماج الاجتماعي بين الأعراق والعائلات.
الكتاب يركز بشكل أساسي على تنوع فرنسا الاجتماعي والثقافي، بل إن المؤلف يشير إلى «أننا نواجه 100 ألف فرنسا» كبلد متنوع. فكل «بايس» والتي تعني بالغالية – الرومانية منطقة، لها هوية خاصة، من حيث «البصمات التي تركها الإنسان عليها».
يضرب المؤلف مثلاً على ذلك، وهو أن أهالي فالبريتون كانوا «يلبسون ثياباً حمراء اللون في كورنواي وزرقاء في ليون وأرجوانية في تريجون». وعندما كان لوستيجيه كبير أساقفة باريس الأسبق يتحدث في أبرشية أورليان كان الناس يقولون له: «لكننا لسنا من أورليان».
هذه الأشكال الفرنسية المختلفة لطريقة العيش كانت تُفسِّر طبيعة الانتماءات التفصيلية للفرنسيين، والتي بَقِيَت على حالها منذ عشرات القرون. ربما هي لم تصطدم بالهوية العامة للفرنسيين، لكنها كانت متوزعة على زوايا تلك الهوية.
بل إن إيرفيه لو برا وإيمانويل تود قد خَلصَا إلى أن «المجتمع الصناعي لم يتمكن من محو تنوع فرنسا، وهو ما يُمكن إثباته عن طريق التحليل الخرائطي لعدة مئات من المؤشرات، والتي تتراوح ما بين البُنى العائلية» والعديد من المؤشرات الأخرى التي تدعم ذلك.
كان بردوْل يتحدث عن اختلاف أنماط الاستقرار السكني في المكان كل عشرين أو ثلاثين أو أربعين كيلومتر». وكانت باريس فيما مضى «تحوي في داخلها على تقسيماتها الطبقية بتقاليدها الخاصة، سواء أكانت تقاليد عُماليَّة أم تقاليد مثقفين أم تقاليد برجوازية».
هذه السمات الخاصة داخل شخصية الفرد الفرنسي جعلت له ميولاً محددة حتى في أشكال العمارة، فضلاً عن اللغة، كما هو في جاسكونيا على جبال البرانس، كون سكان هذه المنطقة في الأصل، قد قَدِموا من الأراضي الإسبانية في القرن السادس الميلادي.
بالتأكيد لا يمكن اختزال أزيد من ألف صفحة من الكتاب في عدة كلمات، لكن الفكرة الأساسية هي تنوع فرنسا التاريخي. هذا الأمر هو ما يعني العرب والمسلمين، سواء القاطنين في فرنسا أو الذين هم في خارجها. (عدد المسلمين في فرنسا يبلغ 6 ملايين).
وإذا ما أردنا الإنصاف فإن هناك جانباً آخر فيما خص مسألة الاندماج، وهو عجز الدولة الفرنسية عن إدماج الأغيار في المجتمع الفرنسي ونظام الهوية خلال الحقب المتأخرة، إلى المستوى الذي يجعلهم يشعرون بانتمائهم الجديد، بعيداً عن وطنهم البيولوجي التقليدي، نحو الأرض الجديدة، وبالتالي وقوعهم في هوية ناقصة لا دالَّة لها.
ففرنسا لم تستطع أن تجعلهم ضمن هوياتهم الخاصة والتفصيلية، ثم ضمن الهوية العامة لفرنسا، عبر جعلهم يعيشون التمييز في الوظيفة والتمييز في السكن، حيث أغلبيتهم تعيش في الأحياء الفقيرة، أو كتلك التي تشبه الغيتوات المعزولة، الأمر الذي دفع بالكثيرين منهم للولوج في عالم المخدِرات، لينتهي بهم المطاف إلى السجن.
كان ذلك قد خلق في أوساطهم العديد من الاتجاهات كالتطرف. ساعد على ذلك عندما تركت الدولة الفرنسية، هؤلاء ليذهبوا إلى مناطق الصراعات كسورية والعراق واليمن، الأمر الذي ارتد عليها لاحقاً. وهو ما أظهرته على الأقل عملية شارلي إيبدو الأخيرة.
ما جرى في فرنسا هو درسٌ للجميع عليهم استيعابه بتأنٍ، ومن أهمه مسألة الاندماج التي يجب أن تأخذ مجالاً أكثر عمقاًَ وتجذّراً، كي لا يقع الشرخ في الهوية.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4510 - الأحد 11 يناير 2015م الموافق 20 ربيع الاول 1436هـ
واحد
الإرهاب واحد في كل. العالم ويجب ان يدان من الجميع فما يجري هنا أشد إرهابا من اي مكان في العالم لك الله يا شعبي الأبي
شعارات الثورة الفرنسية
حتى شعارات الثورة الفرنسية كانت تدعو إلى أممية الأهداف والمبادئ بل وإلغاء الحدود كذلك فكيف يمكن لليمين أن ينمو في بلد كان يؤمن بهذه المبادئ
رسوم مسيئة للاسلام حرية تعبير لكن هذه الحرية تنتهي عند انتقاد شخصية صهيونية
كلنا ضد الارهاب وضد مروجيه وضد داعميه وهم كثر في وطننا العربي...لكن مايثير استغرابي انه حدثت عملية انتحارية ارهابية في لبنان وتم تشييع الضحايا امس بالتزامن مع مسيرة فرنسا ضد الارهاب،السؤال:هل الدم الفرنسي مقدس والدم اللبناني غير ذلك؟ولماذا يتوجه زعماء عرب الى فرنسا للمشاركة في المسيرة فيما لم يدينوا على الاقل عملية طرابلس الارهابية؟ثانيا:لماذا الرسوم المسيئة ضد نبي الاسلام تعتبر حرية تعبير في فرنسا،لكن السجن المؤبد لمن يرسم رسما ساخرا لشخصية صهيونية؟؟