العدد 4508 - الجمعة 09 يناير 2015م الموافق 18 ربيع الاول 1436هـ

قراءة في «خطيئة السرداب... اشتهاء غوايات أخرى»؟!

أول الخطيئة... التمرد الذي يفضي بك إلى أحضان إبليس، حيث تقبل دعوته وتأكل من مائدته! ولكن ماذا لو وجدت إبليس يجلس وحيداً على قارعة الطريق وقد أصبح عاطلاً عن العمل؟!

(خطيئة السرداب) تتوغل بك في أحلك الظروف التي تمضي لمختلف العواصم كيما تنبش قصص البشر مع المعتقدات. من يمتلك الحقيقة؟ ليس مهماً أن تحاول إجابة هذا السؤال الإشكالي ولكن التحدي الأبرز أن تكون قادراً على تقبل فاتورة الإجابة لو جاءت متأخرة، حينما يتحول البشر بكل تكنولوجياتهم إلى شياطين، كل واحد في داخله سرداب معتم من شهوة الشر!

إن للتجوال هنا في هذا المنجز الروائي متعة يهديك إياها الكاتب رسول درويش حيث قام بطبخ مكوناته الدرامية بوعي ونضج من يعرف لعبة الكتابة من الإرهاص الأول لشهوة الحرف، فلا نملك إلا الهرولة خلف السطور مهما كانت الحفر والألغام التي تشحن جو الرواية بالمزيد من الرغبة في التحدي ومشاركة مبدعها تذوق معنى المغامرة.

مغامرة شيقة في جل تفاعلاتها، لا تشترط عليك جواز مرور، غير أنك لكي تتقدم نحو السرداب، لابد وأن تكون في طحنك الحياتي قد مارست طيشاً شيطانياً، تقد فيه قميص الخطيئة من دبر، تضحك في لحظة الشر ولا تكونن من القوم النادمين... فهل أنت مستعد؟!

كانت المفاجأة باتصال هاتفي من الكاتب ثم نمت العلاقة فيما بيننا، حيث وصلتني مخطوطة (خطيئة السرداب، ص 272) لم أدرك حينها ما عليّ فعله في طبيعة التعاطي الذي يتوجب ممارسته؟ فمعرفتي تنحصر بمن يمارس السرد، صاحب السرداب ما كان بارزاً على مستوى الساحة السردية في البحرين أو أعلن عن ذاته.

رغم هذا... وجدت لذة أخرى في قراءة (خطيئة السرداب) وقررت التعرف على تلك الشياطين الماكثة بين طيات الورق وحتى تجربة الاصطلاء بنيران خطاياها ولو مجازياً، حتى اكتشف ما هو ماثلٌ أمامي. فإن أي مغامرة تتلمس طريقك إليها في العتمة وتأخذ بأنفاسك في حماسة اللحظة، لهي جديرة بالتجربة وخوض غمارها بلا تردد... هذا ما يبرع فيه كاتبنا رسول، معمارية السرد لديه أوجدت عالماً آخر من فتنة الحكاية، عمل على قولبتها ضمن أطر (زمكانية) متفاوتة ومتقاربة بالوقت ذاته، تحبل بالعديد من محطات الصراع الإنساني، تنخفض وتعلو مستويات توتره البياني بين فصل وآخر تبعاً لظروف اللعبة التي حاكها قلم درويش، على ماذا كان يراهن بالضبط؟ وهل هو مقبل على مشروع واضح المعالم تتضح هويته في القادم من الأيام، أم يجرب مجازفة الكتابة من عتبات الرواية رضوخاً لإغراءاتها الشهية الطعم وهو بلا مزايدة في طريقٍ شاقة وطويلة؟ واقعاً لا أدعي هنا بمعرفتي إجابات يمكن تخمينها بالنيابة عن الكاتب، لكن سعيه الدؤوب نحو طبخ وجبته الروائية على نار هادئة مع القراءة المتواصلة للمنجز الروائي العربي والعالمي، أسهم في امتلاك كاتبنا للمفاتيح المناسبة كي يبدأ المشوار.

استهلّ الكاتب بداية عمله الروائي بالآية القرآنية (أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساءِ بل أنتم قومٌ تجهلون) (النمل: 55) بمثل هذه العتبة الأولى، هناك تعريف للمتلقي أن الرواية تنطلق من حيث العنوان إلى عوالم الخطيئة التي تجسدها العديد من شخصيات العمل، وهو ما تأكد لي فيما بعد. عتبة أخرى لا أستطيع تنحية تأثيرها، الإهداء... فإن درويش يقدم منجزه إلى امرأة بعثرته في هذه الحياة؟! الكاتب حر طبعاً في الكيفية التي يبدأ بها من حيث الإهداء ومقاصده وهذا الأمر رغم حالة الفضول التي يولدها فيّ إلا أنني سأتجاوزها.

بغداد... المحطة الأولى

الأحداث تنطلق من العاصمة العراقية بغداد، حيث هناك تجربة حياتية تجمع قادر وكاظم في محور الصداقة، مراهقين على ضفة نهر الفرات، يلتقيان من بعد الغزو الأميركي للعراق وما تبعه من سقوط نظام صدام حسين 2003م حيث كل هذه الظروف الاستثنائية تجتمع لترسم خلفية المشهد، التاريخ يُكتب هنا. ومن يكتب التاريخ، الخاسر أو المنتصر؟ أو تلك الفئة القابعة في قاع المجتمع العراقي، فئة الجنس الثالث، تستمتع بتنفس حرية اللهو وتقديم وجبات الخطيئة، إن لم يكن لكبار ضباط الجيش العراقي المهزوم فالأميركان هم من يتسيد مائدة الحرب والأكل من مغانمها، للحصول على بعض الراحة، بعدما كان دخول بغداد مجرد نزهة حيث دكّت صواريخ (توماهوك وطائرات البي 2) معظم قطاعات الجيش العراقي ثم تكفل اليورانيوم المستنفذ بباقي المهمة.

أحداث الرواية تختار زاوية حرجة لظهور أبطالها، كل هذا يتم بصوت السارد العليم، يعرف أصغر التفاصيل في منظومة الأحداث المتلاحقة ويجعلك تلاحقها ركضاً، لكن ليس بالإمكان كشف بنية الرواية وما تنطوي عليه كما كنا نعتقد، الكاتب يدسّ بين سطوره العديد من محطات التحول، تعمل على خلق الإرباك وبعض التساؤلات في ذهن المتلقي. على سبيل المثال، هل الرواية تعالج آثار الغزو الأميركي على هيكلية المجتمع العراقي من الناحية القيمية الأخلاقية؟ هؤلاء الذين استقبلوا الجيش الأميركي بالورود بالفعل كانوا يعون مدى دقة وحرج اللحظة التاريخية التي هم عليها؟ ثم ما الثمن الذي جاءت الولايات المتحدة كي تقبض في مقابله الخدمة (الظاهرية) التي قدمتها؟!

ابتهاج المجتمع العراقي آنذاك اختلطت فيه المشاعر لحظة انهيار طاغية البعث، ولا يمكن لنا هنا أن نتبين هذه التركيبة المعقدة من المشاعر والأحاسيس ومعرفة تأثيرها بمعزل عن خطاب الأيديولوجيا الديكتاتورية التي تشبع بها الخطاب التعبوي إعلامياً وثقافياً وسياسياً اخترق جميع مفاصل الدولة العميقة في بنية المجتمع المدني العراقي، إلى أن حانت ساعة الصفر فكان السقوط المدوي، سقوط أجلت ساعاته الأخيرة تصريحات (وزير الإعلام محمد سعيد الصحاف) الذي أدار الحرب الإعلامية بالمزيد من الكذب وهو يتوعد أن يحول العراق إلى مقبرة للجيش الأميركي.

بينما الشعب العراقي كان يتوق للخلاص من قيد الديكتاتورية وسط تلك الظروف الدراماتيكية، بعد سنوات ساورتني رغبة ملحّة في التعرف على خفايا هذه الرغبة وقياس مدى فرحة العراقيين في الخلاص من طاغية بغداد، فقال لي أحدهم: إنه على استعداد أن يقرأ مجلس فاتحة على روح والدة جورج دبليو بوش لأن ابنها خلص العراق من صدام حسين؟!!

لم يدرك أحد حينها أن مشروع الفوضى الخلاقة الذي بشرت به كوندليزا رايس قد بدأت أولى فصوله في الشرق الأوسط. هنا وجد درويش وسط هذه الأجواء بذرته المناسبة كيما يبني مشروع روايته، كنت متحفظاً في هذه الهجرة التي جعلت درويش يختار بيئة روايته بعيداً عن المحلية البحرينية واختيارها من بغداد والمغزى من ذلك، ثم بعد تفكيك العمل تبين لي أن الكاتب يراهن على تلك الروح المحلية لكن ليس في حدودها الجغرافية المرتبطة ببلد الكاتب، إنما ضمن إطارها العربي الأوسع، يصبّ عليها صهارة أفكاره فيستخرج منها مختلف الإشكالات الفكرية والثقافية المسكوت عنها في بنية العقل العربي وعلاقته بثقافة (الآخر) القادم من وراء البحار.

البحث عن الحقيقة

الروائي ليس من شأنه توثيق التاريخ، فهذه المهمة متروكة للمؤرخ، (خطيئة السرداب) سافرت بنا في مختلف عواصم العالم وكادت بأجوائها تلامس هذه الحالة التوثيقية لكن رسول درويش في اعتقادي... وهو يكتب منجزه الروائي كان يعرف منذ البداية طبيعة التربة التي يزرع فيها وحالة الطقس التي يتوقعها قبل شروعه في العمل. إن أكثر الرؤى المطروحة في (خطيئة السرداب) تذهب بعيداً نحو مخاطبة العقل والوجدان، حيث ركزت على حوار الثقافات والبحث عن الحقيقة، ولا أعتبر الحالات الجنسية في مفاصل العمل إسفاف يتسبب بالضعف والترهل الفني كما عند بعض الكتاب الشباب قليلي الخبرة الساعين لشد الانتباه على حساب المضمون، سعياً لحصد فلاشات الأضواء وأرقام التوزيع. الكاتب وظف البعد الجنسي بواقعية صاخبة لكن بناءة، وسعت من بؤرة الحدث، تشارك فيها مع المتلقي، شاكسهُ بكل الأسئلة الممكنة وحتى صدمه بها أحياناً، درويش مرجعيته واحدة تمضي نحو نبش تلك الحقيقة التي نهرول خلفها كلنا بطريقةٍ أو بأخرى. لذا أجدني هنا أنحاز معه تلقائياً في حمّى البحث عن معنى الإنسان؟ خطاب الرواية يركز جلّ جهده في البحث والحفر في نطاق هذه الجزئية المهمة، في حالة السلم أو الحرب من هو الإنسان؟

هل هو مجرد بيدق على لعبة الشطرنج بين قامات الإمبريالية الدولية التي تدير اللعبة السياسية؟ أم هو متعة جسدية منحرفة على سرير الفقر والتخلف؟ أو ربما شيء مهمل على رصيف الغربة والضياع حينما تلتبس الهوية في عتمة الظروف؟ قدرة جميلة مكنت كاتبنا من خلق هذه التوليفة السردية المطولة ذات النكهة اللذيذة بما حملت من مضامين، سواءً اتفق معي المتلقي في شكل سقف الحرية الذي مارسه درويش ضمن العمل وطبيعة الشخصيات أم تحفظ عليه، (خطيئة السرداب) نجحت في توصيل رسالتها. وما زادها أهمية وأضاف إلى موضوعيتها، توغل كاتبها في التضاريس الجغرافية لمختلف البلدان التي مثلت مسرحاً لأحداثها، ما يزيدني قناعة أن البحريني رسول درويش لا ينوي أن يكون مجرد لاعب احتياط على الساحة الروائية العربية بل الحصان الأسود الذي تتكالب عليه مراهنات الناشرين في المستقبل المنظور.

العدد 4508 - الجمعة 09 يناير 2015م الموافق 18 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً