العدد 4508 - الجمعة 09 يناير 2015م الموافق 18 ربيع الاول 1436هـ

«القُريَّة»: يوم قروي بامتياز... لولا الحريق

«الدولاب» أو مركز التجارب الزراعية بالبديع في العام 1951
«الدولاب» أو مركز التجارب الزراعية بالبديع في العام 1951

تعتبر قرية «القُريَّة» الجزء المتبقي من قرية فاران القديمة، والتي كانت تشمل مساحتها قرية القُريَّة الحالية، وتمتد غرباً حتى ساحل البحر. وقد جرت العادة عند أهالي المنطقة إطلاق لفظ (القَرية) بفتح القاف وتسكين الراء، و(القُريّة) بتصغيرها، على كل مدينة أو قرية كانت عامرة ثم اندثرت، ولهذا يوجد أكثر من موضع يُدعى بهذين الاسمين في منطقة إقليم البحرين القديم وحواضره الثلاث الأحساء وأوال والقطيف (الجنبي، اتصال شخصي). وفي جلسة جمعتني مع أفراد من قرية «القُريَّة»، وذلك في محاولة لنبش ما حفر في ذاكرتهم حول قريتهم، سرد الحاضرون مشهداً تقليدياً، ليوم قروي بامتياز، كانت تعيشه قرية «القُريَّة» بشكل روتيني في خمسينيات القرن المنصرم. وهذا المشهد لا يختلف كثيراً عن المشاهد المتكررة في القرى المجاورة، كالجنبية وبني جمرة وسار والمرخ.

كانت قرية «القُريَّة» في بداية الخمسينيات، عبارة عن قرية صغيرة، وفقيرة في الخدمات، فلم تكن البنية التحتية لها قد أسست بعد؛ فليس بها كهرباء، أو ماء، أو طرق معبدة، أو شبكة مجاري. ومعظم الناس عندهم دور مسقوفة، مبنية من الحجر والطين، لفصل الشتاء، إضافة لامتلاكهم عُرشاً وبرستجات (بيوت مصنوعة من سعف وجريد النخيل)، وهي بيوت تعد خصيصاً لفصل الصيف وتسمى المضاعن. وهذه العرش والبرستجات إما أن تكون بجنب البيوت، أو تكون في منطقة أبعد من المنطقة الأساسية. وعادة ما يكون المضعن عبارة عن مجمع لمجموعة عرش وبرستجات متجاورة؛ لكي يحموا بعضهم بعضاً من السراق.

وفي ما يخص مصادر المياه، فقد كانت قرية القُريَّة وحتى الخمسينيات تعتمد على نظام القنوات التحت أرضية أي الثقب. وهذه القنوات تمتد من عين «أبوعليوه» في المرخ وتمر خلال وسط قرية القُريَّة وتنتهي في ساحل الجنبية. وهذه القنوات تستخدم للزراعة وللاحتياجات اليومية. وفي الخمسينيات كانت هناك عدد من المواقع مهمة للنهر الذي يقطع القرية، والتي كانت تعتبر كحمامات عمومية، من هذه المناطق «الكسرة الشرقية»، و «الكسرة الغربية»، وهذه المناطق ترتادها النساء؛ للتزود بمياه الشرب، وذلك قبل صلاة الفجر، بينما يخصص وقت بعد صلاة الفجر للتزود بمياه شرب الدواب، ولقضاء حوائج النساء، وغسل الثياب، والأواني. أما المنطقة المسماة «التنگوب» فقد خصصت لقضاء حوائج الرجال، والاغتسال. وموقع «التنگوب» هذا موقعه اليوم بالقرب من المسجد الوسطي. يذكر أن أهالي القرية لم يبدأوا ببناء الحمامات المتكاملة داخل البيوت إلا في ستينيات القرن المنصرم؛ وذلك بعد تزويد القرية بإمدادات المياه الحكومية.

يوم قروي بامتياز

يبدأ اليوم من قبل صلاة الفجر، حيث يخرج أصحاب الحظور لجمع الأسماك من حضورهم لتوفير إدام يومهم، وفي الغالب كانت كمية الأسماك تكفي لوجبة الغداء، وجزء من وجبة العشاء. كانت حظورهم في ساحل فاران القديمة، الذي أصبح اليوم جزءاً من ساحل البديع وساحل الجنبية الجديدة، وأصبح محاطاً بأملاك خاصة، يتعذر معها بناء الحظور ووضع مصائد الأسماك فيه.

أما بعد صلاة الفجر، فيتناول الرجال الإفطار وينصرفون إلى أعمالهم. البعض منهم يعمل لحسابه الخاص؛ حيث كانوا يعملون في الزراعة. والبعض الآخر كانوا يعملون في شركات كبيرة مثل شركة «بابكو». وآخرون كانوا في وظائف حكومية، وفي الغالب كانوا مزارعين وعمالاً يعملون في «مركز التجارب الزراعية في البديع» والذي يعرف عند العامة باسم «الدولاب».

في حضرة الأم الحاضنة: «الدولاب»

الدولاب أو دولاب المستشار هو الاسم الذي أطلق على منطقة زراعية على شارع البديع عند مدخل قرية البديع. ولا نعلم بالتحديد متى أنشئ هذا الدولاب أو كما عرف لاحقاً باسم دائرة الزراعة أو مركز التجارب الزراعية، إلا أن مستشار حكومة البحرين بلجريف (1926م - 1957م)، ذكره في مذكراته، حيث زاره في يوم الأحد 13 مارس/ آذار من العام 1927م. ولم يكن حينها مركزاً للتجارب، بل كان أرضاً زُرعت به النخيل وعدد من الأشجار (الخليفة 2000، ص 168). هذا الدولاب أنشئ في بداية الأمر كحديقة صغيرة للتجارب الزراعية من أجل تنفيذ بعض التجارب الزراعية وإفادة المزارعين كتوفير الحبوب وبعض أنواع المبيدات الزراعية وغير ذلك، وتطورت تلك المحطة الزراعية شيئاً فشيئاً. ولاحقاً وضعت فيه مجموعة من الحيوانات؛ وهكذا تحول لحديقة عامة، كان الكل يستمتع بها.

ومنذ تأسيس هذا «الدولاب»، كان لأهل القرى القريبة منه ذكريات حميمة. كان العديد من أهل القرى المجاورة يعملون في هذا الدولاب، أو المركز، منذ الصباح وحتى مغيب الشمس مقابل (آنات) قليلة وبضع (فردات) من التمر، ثم تطورت الرواتب مع الزمن. كان المركز يجمع العديد من شباب القرى القريبة التي تبحث عن عمل، وأصبح، مع مرور السنين، كالأم الحاضنة لأبناء تلك القرى؛ حيث أصبح كل من لا يجد له عملاً يجد له مكاناً في هذا المركز. هو عمل حكومي، ولكن ليس كأي عمل حكومي آخر، كانت له أعرافه وقوانينه، وعادات ربما تحولت لطقوس تمارس فيه. هذا الدولاب حفر لنفسه مكاناً في الذاكرة الشعبية لأهالي القرى المحيطة به؛ فلازال العديد من أهالي هذه القرى يتداولون المقولة المشهورة التي ارتبطت بهذا المكان، وهي: «إلا الدولاب». للأسف أصبحت هذه المقولة تساق كمثل لعدم الاكتراث بالعمل. هذه المقولة ترتبط بالعديد من القصص التي حفرت في الذاكرة الشعبية.

الحريق الكبير

في يوم الثلثاء، الثالث من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 1953م، أصبحت قرية «القُريَّة» الصغيرة حديث البحرين. قال محدثنا، وهو يسرد قصة ما حدث في ذلك اليوم:

بعد صلاة الظهر من ذلك اليوم، دخلت، كعادتها، في ذلك المطبخ المتواضع والمكون من سعف النخيل، لتحضير القهوة ليشربها الرجال بعد تناول وجبة الغداء، والذي غالباً ما يكون سمكاً مقلياً مع رز أبيض. وضعت دلة القهوة على «چولة الگاز» وأشعلتها، وذهبت خارج المطبخ لتحضر حاجة أخرى. وما هي إلا دقائق غابتها، حتى «فارت» القهوة، وتناثرت قطراتها على البقعة المحيطة «بالچولة»، والتي مازالت مشتعلة، فتطاير الشرار ووقع على أرضية العريش، وكانت الأرضية «حصيراً» من الخوص؛ فاشتعل الحصير، وما هي إلا لحظات حتى اشتعل العريش بأكمله. وقد كانت معظم العُرش متلاصقة. وقد كان الوقت شتاء، والريح شديدة، ومضطربة، فساعد ذلك على انتقال الحريق من عريشٍ إلى آخر بشكل سريع.

كان غالبية الرجال لايزالون في أعمالهم. وقد سارع من تبقى من الرجال إلى «التنگوب»، وملأوا الدلاء، وركضوا بها لآخر عريش يحترق، علهم يوقفون استمرار الحريق. وهرعت النساء تخرج متاعهن، وحوائجهن من العُرش، التي كانت في مسير خط النار. ولكن الرياح فاجأتهم بتغيير مسارها، والتهمت عُرشاً كثيرة خارج خطها، وتركت عُرشاً أفرغت من مكوناتها. وقد استمر الحريق مشتعلاً ساعات من الزمن، والرجال والنساء والأطفال، كلٌ يساعد لإخماده، وهم في فزع شديد، حتى خمد بنفسه، عندما لم يجد شيئاً ليلتهمه. لقد كان هذا الحريق أحد أكبر الحرائق في البحرين في تلك الحقبة، وقد ذكره بلجريف في مذكراته؛ ومما كتبه عن هذا اليوم في مذكراته:

«كُنت خارجاً أغلب الليل إلى مكان حريق كبير جداً التهم منطقة كبيرة من بيوت العشيش، التهم الحريق حوالي 150 منها. إنه أكبر حريق حدث لدينا وكان لابدّ وأنه تسبب في ضرر بليغ حيث في الوقت الحاضر يكلّف بناء العريش الواحد قرابة 500 روبية، فلم تعد طريقة رخيصة للعيش. فقد مئات الناس كامل أملاكهم - إلا أن معظمهم لا يملك كثيراً. أفترض أن أثمن ما يملكون هي أجهزة المذياع (الراديوات) التي يحتمل امتلاك العديد منهم لواحد منها» (يوميات بلجريف غير المنشورة).

يذكر أن الأهالي تساعدوا فيما بينهم في بناء العرش الجديدة، إما بالمواد أو العمل اليدوي، حتى يبنوا مأوى يضفهم وعيالهم.

مازالت الذاكرة الشعبية مثقلة بالعديد من الذكريات والتاريخ، ومازالت هنالك العديد من الأسرار حول تاريخ القرى. سوف نحاول الكشف عن العديد من هذه الأسرار في الحلقات القادمة. يتبع.

العدد 4508 - الجمعة 09 يناير 2015م الموافق 18 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 4 | 11:17 ص

      الحقائق التاريخية

      نتمنى نشر اخبار اكثر عن هذه القرية وانت سألو عن شجرة نسب عائلة في هذه القرية عميدها هو الحاج عبدالله مدن عبدالله الحيدري هذا الرجل يمتلك تأريخ في ذاكرته

    • زائر 3 | 11:13 ص

      قصة رائعة

      لقد أبدعت دكتور حسين في رواية هذه القصة التي تعود لفترة الخمسينيات.
      فعلا، عاش أجدادنا ضنك العيش ولكنهم عصروا الحياة ولم تعصرهم، صارعوها ولم تصرعهم. ونحن هنا لأنهم أنجبوا. فليرحمهم الله ويسكنهم فسيح جناته.

    • زائر 1 | 3:43 ص

      ليت الزمان يعود يوما

      ذكريات رائعة و ايام جميلة عاشها اجدادنا ف ظل،البساطة و الطيبة ... بعكس هذه الايام التي لا يعرف الجار فيهاجاره

    • زائر 2 زائر 1 | 5:21 ص

      ويش تقول ؟

      شكلك مو عايش في لقرية ... الجار ما يعرف جاره ؟ اسمح لي هذي من عندك .. الا اذا انت قافل على روحك باب بيتكم وما تطلع وما عندك روح اجتماعيه .. لان اغلب الاهالي متعارفين مع بعضهم حتى الا سكنوا من بره صارت عندهم علاقة مع الاهالي

اقرأ ايضاً