أدى النمو السريع للسكان والانتقال من الأرياف إلى المدن ودعم الأسعار إلى ارتفاع غير مسبوق في الطلب على الطاقة والمياه والغذاء في المنطقة العربية خلال العقود الأخيرة. ونتيجة للنمو الاقتصادي والتطور التكنولوجي وعوامل ثقافية واجتماعية متعددة، شهدت أنماط الاستهلاك في المنطقة تحولات مثيرة.
ففي معظم البلدان العربية، ارتفع عدد السيارات الخاصة أضعافاً، وأصبح السفر للعمل والسياحة أكثر شيوعاً، وازداد امتلاك الأدوات الكهربائية والإلكترونية. لكن فجوات كبيرة مازالت قائمة بين الدول العربية المختلفة فيما يخص أساليب الحياة ومستوى الرفاهية وأنماط الاستهلاك. كما تشهد بلدان المنطقة تفاوتاً بين فئات المجتمع المختلفة وكذلك بين الأرياف والمدن. وقد أظهر تقرير المنتدى العربي للبيئة والتنمية بشأن البصمة البيئية أن المنطقة العربية تعاني عجزاً كبيراً في الموارد القابلة للتجدد، خاصة الأراضي والمياه، وهذا الوضع سيتفاقم نتيجة لتغير المناخ.
التقرير الأخير الذي أصدره المنتدى العربي للبيئة والتنمية عن الأمن الغذائي وجد أن تعديل العادات الغذائية شرط ضروري لتحقيق الأمن الغذائي. وجاء هذا الاستنتاج ليؤكد ما توصل إليه تقريران سابقان عن المياه والطاقة، من أن ترشيد الاستهلاك شرط ضروري لأية خطة جدية. فاستخدام المياه على المستوى الفردي في بعض البلدان العربية التي تعتمد التحلية يصل إلى أضعاف الاستهلاك في دول غنية بالمياه وبالدخل. وكفاءة الري تبلغ نحو نصف المعدل العالمي. أما استخدام الطاقة، خاصة الكهرباء، فهو في أجزاء من المنطقة العربية الأعلى في العالم، بينما أجزاء أخرى محرومة من إمدادات الطاقة المضمونة.
أما فيما يخص الغذاء، فإن محدوديات الطبيعة تحتّم التحول إلى أصناف بديلة يمكن للمنطقة إنتاجها من دون استنزاف مواردها الطبيعية المحدودة في الزراعة المكثّفة، أو هدر مواردها المالية للاستيراد من الخارج. فبينما تستورد الدول العربية اللحوم الحمراء، مازالت الثروة السمكية غير مستغلة على النحو الصحيح، مع أن البلدان العربية قادرة على الاكتفاء الذاتي في الأسماك وإنتاج فائض للتصدير أيضاً. صيد الأسماك وتربيتها في أحواض مالحة لا يشكلان ضغطاً على المياه العذبة، كما أن إنتاج لحوم الدجاج يتطلب كميات أقل من المياه. لذا، فزيادة استهلاك الأسماك والدجاج على حساب اللحوم الحمراء يساهم في الأمن الغذائي. وقد تستدعي تأثيرات التغير المناخي التحول إلى أنواع بديلة من الحبوب تتحمل الحرارة والجفاف وتستهلك مياهاً أقل. هذا كله يحتاج إلى تحوّل يستدعي تحولاً في الأنماط الاستهلاكية.
يتطلب تعديل أنماط الاستهلاك حوافز وروادع مالية، تشجع الاستثمار في منتجات محددة، ما يؤدي إلى خفض أسعارها لجعلها مرغوبة من المستهلكين، ورفع أسعار منتجات أخرى بهدف خفض استهلاكها. لكن هذا لا يكفي، إذ إن تغيير العادات الشخصية يحتاج إلى عمل حثيث في التربية والتوعية. المطلوب مزيج من سياسات حكومية واستراتيجيات يتبناها القطاع الخاص، ومبادرات من المجتمع المدني والمؤسسات التربوية ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام. وذلك من أجل تعديل أساليب الحياة والأنماط الاستهلاكية لدى الأفراد وصولاً إلى تصرفات أكثر استدامة. فالفرد المسئول بيئياً يستهلك كمية أقل من الطاقة والمياه، ويختار أنواع الغذاء الملائمة للطبيعة والظروف المحلية، ويخفف من الهدر وإصدار الانبعاثات.
تغيير أنماط الاستهلاك، للمساهمة في إدارة أفضل للموارد الطبيعية وحماية البيئة، سيكون موضوع التقرير الجديد الذي باشر المنتدى العربي للبيئة والتنمية العمل عليه. وسيرافق التقرير استطلاع شامل للرأي العام العربي، للتعرف إلى مدى قبول الجمهور بتبديل عاداته الاستهلاكية فيما يخص المياه والطاقة والغذاء. سيختبر الاستطلاع مستوى معلومات الجمهور عن ندرة المياه العذبة ومستويات الاستهلاك المرتفعة والهدر، وما يرونه من أسباب وراء ذلك. كما سيسألهم إذا كانوا على استعداد لدفع السعر الحقيقي للمياه والكهرباء والوقود، إذا ترافق هذا مع رفع الأجور وتقديم خدمات التعليم والطبابة والتقاعد، وعما إذا كان مستوى استهلاك السيارة أو الأدوات المنزلية الكهربائية عاملاً في الاختيار. وفي مجال الطعام سيسأل الاستطلاع عن المأكولات الجاهزة والأغذية المستوردة وقابلية التحول إلى أطعمة بديلة إذا كان إنتاجها أكثر رفقاً بالبيئة.
تعديل أنماط الاستهلاك شرط حتمي لرعاية البيئة وإدارة الموارد بما يحفظ استدامتها.
إقرأ أيضا لـ "نجيب صعب"العدد 4507 - الخميس 08 يناير 2015م الموافق 17 ربيع الاول 1436هـ