لا يريد أحدٌ أن يكون ناقصاً. كلٌ يبحث عن الكمال. الكمال الذي يراه هو ويحدّده ويعتقده ويقيسه. ولا أحد سيبلغ الكمال؛ فالكمال مكانه السماء، لكن بعض الذين لا يريدون أن يكونوا ناقصين ستجد تورطهم في النقص، وتورطهم في ما بعده.
كلٌ يريد مثل ذلك الكمال، وبعضٌ يحدد هيئته ومداه، حتى لو كان ما يصدر عنه عنواناً للنقص، ولو كان أسلوبه مدخلاً لذلك النقص.
الكمال هو ليلى التي يتغنى الجميع بها ويريدون وصلها، ومع أول اختبار من السهل أن يدعي أولئك إصابتهم بالجلطة، أو حدث سوء فهم حين «تحق الحقائق» ويخضع المرء للامتحان الذي يكرم فيه أو يهان، كما وعينا على ذلك التكرار الممل الذي لم يعبأ به أحد ولم يقتف أثره كثيرون.
في الممارسة من حولنا، يكاد يكون النقص هو الشعار الذي يتمسك به كثيرون، رغم الصلف والغرور والتغافل. كل ما حولنا وبالتفاصيل نقص. من الحدائق النظيفة قبل أن نزورها ونحوّلها إلى مكب نفايات لهونا والترويح عن أنفسنا، والأخلاق المقيتة في الطريق في أول الصباح وما بعده، بضيق الأفق، والتهور، والاستعداد لنحر من يتجاوز عن قصد أو غير قصد، وفي بيوتنا التي نصلها وقد بلغنا أسوأ الأمزجة، في ما شهدناه في طريق الوصول إلى البيت، من بذاءة وبذاءة مضادة، لنصب جام غضبنا على الذين ينتظرون اجتماعنا على وجبة الغداء، فينالوا نصيبهم من وجبات «كمال» من نوع آخر.
حتى في شهر رمضان المبارك والتطوع، تتحوّل وتنحرف الأخلاق والمزاج لدى بعضهم بدرجة 180، وكأنه يمنّ على الله والبشر صيامه بالأخلاق التي يتعامل بها معهم، وذلك هو الكمال الذي يتحدثون عنه بالمناسبة دون خجل، حتى بتنا نتمنى لو أن كل العام شهر رمضان!
وفي الكمال الذي يبحث عنه بعضهم، قدرته على الكذب والغش والاحتيال والاستغلال والاستغفال والتآمر. كأن الكمال الذي يبحث عنه لا يختلف عن أوراق رهان على طاولة يمكنه استغلال غفلة وسذاجة الذين يلهو معهم ليمرر أوراقاً مكررة دون أن يلحظوا، وتحويل خسارته إلى ربح بأي ثمن وشكل يراه يتيح له الكمال الذي يريد، وأولئك ممن كانوا مغفلين أو مستغفلين سينسون مع مرور الوقت ليظل هو في صورة الكامل الذي لا يخسر رهاناً، وإن خسر شرفاً وقيمة لم يعد لهما مكان في هذا الزمن الذي لا يجيد سوى: العار أن تخسر، الشرف أن تربح ولا يهم الأسلوب الذي ربحت به، وذلك هو الكمال!
وليس نقصاً أن تشي لتكسب، فذلك هو في عرفهم وديدنهم الكمال. وليس نقصاً أن تتملق لتصل، وذلك صورة من الكمال. وليس نقصاً أن تبتز لتنال مبتغاك، فذلك في طبيعة زمننا هو الكمال. وليس نقصاً أن تنهب وتسرق وتأكل المال الحرام بذكاء تتوهمه، واستغفال تمارسه وتنجح فيه، فذلك هو الكمال.
وبعد كل ذلك الوهم المشفوع بالممارسة حين تخضع لأبسط مجهر أخلاقي، في البحث عن الكمال، لن نقف إلا على حقيقة النقص وليس نقصاً، يؤكدها أصحابها ويحيون بها ويموتون.
يظل الفارق في ادعاء الكمال أحياناً يكمن في أن تكون سبباً للجمال أو سببا للقبح، تماماً مثل الحدائق النظيفة التي نحوّلها إلى نفايات اعتماداً على آسيوي قطع آلاف الأميال اغتراباً، بعيداً عن أهله وأسرته، ليتولّى تنظيف «كمالنا» في النفايات التي يتولى كنسها وجمعها!
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4506 - الأربعاء 07 يناير 2015م الموافق 16 ربيع الاول 1436هـ
اللهم
اللهم لك الشكر على كل شى والحمدالله فى السراء والضراء وافوض امرى الى الله ان الله بصير بالعباد وشكرا للكاتبه