الكتابة التي لا تخرجك من تبعية صنمية، هي جزء من الصنمية نفسها. الكتابة التي لا تؤسس لاسترجاع خياراتك المُصادرة والمُتلاعب بها، هي جزء من الجهات الممارسة لكل ذلك. الكتابة التي لا تضعك أمام وزنك وحقيقتك، تمارس تزييفاً ضدك بتعاطفك معها. الكتابة التي لا تطارد الواقع لتفضحه وتعرِّيه وتقدم لك حقيقته، هي جزء من آلة تجميل القبح، وإعلاء شأن الانحطاط.
الكتابة التي لا تقرأ إلا ما هو محدّد ومسموح لها، لن يصدر عنها إلا التعتيم والتجهيل وتكريس الأمية في أكثر من صورة ونموذج وشاهد. الكتابة التي تمتلئ بـ «نَعَم»، وتندر أو تختفي عندها الـ «لا»، هي مشروع انبطاح و «انسداح»، ومشروع لإدخال البشر في حظيرة الأنعام. الكتابة التي تُشغل الناس بالماضي، وتبجّل الحاضر بكل سوءاته، لا تريد لأحد أن ينشغل بالمستقبل أو التفكير بالعبور إليه. الكتابة التي تمتلئ بالكذب، وبين فاصلة وأخرى أيْمَانٌ غليظة، واستشهاد بالنصوص وكتاب الله والسنة والسلف الصالح، هي في اللب من سوْق الناس سوْقاً ليُعْرِضوا عن كل ذلك.
الكتابة التي يشبع نجومها بالدجل، بتلقّيهم أوامر ممارسته، لن تكترث بالذين لا يملكون وجبة إفطار، ويقتاتون على نفايات القادرين، ولن يكترثوا بصفرة الوجوه، ونحول الأجساد، والذهول الذي يكتظ في رؤوس بحجم الوجع. الكتابة التي تقول ما يريده أعداؤك والذين يستهدفونك، لا تختلف في كثير أو قليل عن رصاصة تنطلق من نافذة لقنّاص جبان يرتزق من ازدهار الجثث!
الكتابة التي لا تفتح لك كوّةً في أفقك الخاص المسدود، ولا تمنحك أملاً للانتصار على خيباتك وهزائمك والإحباط، هي مشروع إذلال لك، وتأييد لواقع الحصار الذي تعيشه. الكتابة التي لا تُخرجك من منفاك الداخلي إلى أفق الله الرحب، يكمن خلفها سجّان في هيئة مثقف! الكتابة التي تعجز عن التغيير هي ثرثرةٌ في خمّارة بعد استواء الرأس!
الكتابة التي لا تجد فيها وطناً في منافيك وتيْهك وغربتك؛ هي جزءٌ من الحدود الموصدة في وجهك. الكتابة التي تقول لك إن المذبحة ردُّ فعل، وإن الاحتجاز الجماعي لحماية الأمة، وإن السكوت عن الإهانة التي تتحوّل إلى عرْف، جزءٌ من الحكمة والوطنية، وإن غضَّ النظر عن السرقات والنهب المخطط له تجنيبٌ للأمة الفتن، ما ظهر منها وما بطن، ولا باطن في الأمر.
الكتابة التي تقول لك، إن التحريض من جانب الدولة - أية دولة - على مخلوقات لم تأتِ من المريخ أو عطارد أو المشتري، إنما هو جزء من ممارسة دورها السيادي، وتقدير منها لمصلحة الأمة (الأمة التي يُراد تشظيتها وتفتيتها)، وتقول لك، اتخذ الحائط حلاً للنجاة، والهروب طريقة تعبير وفيه موقف أيضاً، وتبنّي نظرية شعبية سخيفة: «حشْر مع الناس عيد»، حتى لو ندرت الأعياد، فيها الشاهد الصريح على حُسْن النوايا، ولو كانت النوايا تلك هي أصل الجحيم؛ وليست فقط الطريق المؤدي إلى الجحيم!
الكتابة التي تبدأ باسم مصدر الدفعات الشهرية قبل اسم الله، يكون الشيطان إزاءها في حال مطمئنة وبلغة فيها كثير من الغنج «CUTE»!
ثم إن الكتابة التي لا استعداد لديها لتحمّل عذابات الناس، وتقديمها من دون التماسات وخضوع واستجداء، وأحياناً بمِنَّةٍ شاهرة ظاهرة، تؤسس لإبقاء الأوضاع في درجاتها القصوى من الرداءة على ما هي عليه.
وبالعودة إلى الكتابات تلك، المليئة بالأيْمَان الغليظة، لن تتوقع منها إلا دعوة صريحة لتناسل الأصنام - إن كانت تتناسل - مادامت حنفيات الموارد مفتوحة عليها؛ وإن عاش جل البشر ضمن نطاقها، الحرمان بكل شواهده المخزية!
مثل تلك الكتابة المليئة بالأيْمَان الغليظة، في تورطها بالصنمية، هي التي تصنع الخضوع والإذلال الراهن، وهي التي تنظّر له، وتجده مطلباً مُلِحَّاً لإشاعة واستنساخ بيئات الغاب!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4506 - الأربعاء 07 يناير 2015م الموافق 16 ربيع الاول 1436هـ
الكتابة
الكتابة الحقيقية وعي وعقل وثقافة ومسئولية وطنية و إنسانية ..مع التحية