العدد 4501 - الجمعة 02 يناير 2015م الموافق 11 ربيع الاول 1436هـ

الراوي بين الوجود والعدم في السرد الروائي

قراءة في «الرجل السؤال» للبحرينية فتحية ناصر...

قال الكاتب الفرنسي الشهير فولتير (يجب أن يكون الروائي في عمله كالله في الكون؛ حاضراً غائباً)، وقد ظهرت تبعاً لذلك محاولات سردية مختلفة، حاول فيها الروائي بحضوره أن يكون راوياً عليماً بكل شيء، أو غائباً فلا يعلم إلا ما تعلمه الشخصيات، بل ويعلم أحياناً أقل من شخصياته. واختلفت جودة الأعمال الروائية تبعاً لذلك، حتى قيل إن أجمل الروايات هي التي تعتمد في تقديمها على شخصيات مستقلة، شخصيات تخفي تماماً وجود روائيٍّ أو صانعٍ لها. وفي هذا السياق، نسلط الضوء على قدرة الروائي في الفصل بين شخوصه وذاته؛ وقمنا بإسقاط ذلك على رواية «الرجل السؤال» للبحرينية الواعدة فتحية ناصر. ويدور هذا الموضوع حول إطارين، أولاً قراءة لأحداث «الرجل السؤال»، وثانياً إسقاط شخصياتها على العمل الروائي من حيث الحضور والغياب أو الوجود والعدم.

تدور أحداث الرواية الصادرة في 2008 عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر حول الشخصية الرئيسية (رجاء)، تلك الفتاة التي تمردت على أسرتها المحافظة فاتجهت للغناء في أحد الفنادق، وهناك تعرفت على (نادر) فتكونت بينهما صداقة كان نتاجها علاقة جنسية غير مكتملة، ثم تزوجت من (علي) وأنجبت ثلاثة أبناء. استمرّ نادر في عقلها الباطن حتى بعد الزواج، لتصل الكاتبة في نهاية روايتها إلى سؤال شرقي ربّما يكون أزلياً: هل توجد صداقة بريئة بين الذكر والأنثى؟

سنحاول في هذه العجالة أن نركز على (وجود وعدم) الكاتبة في روايتها وذلك من خلال بعض الصفات التي يختفي خلالها الروائيون أو يظهرون خلف شخصياتهم:

1. ميل الروائي لإحدى شخوصه: يمكن للقارئ أن يتبين اتجاهات الراوي بعد ملاحظة ميله إلى شخصية ما في الرواية، فالكثير من أفكار الكاتب تصورها شخصياته، وتكون مسئولة بدرجة كبيرة عن باقي المكونات الأخرى مثل عرض الأفكار والتحكم بخط سير الأحداث أو مواجهتها. وهنا يمكن وبسهولة استشفاف ميل الكاتبة لشخصية البطلة رجاء. ومن ذلك قولها: «يُردنَ فرض الحجاب على جميع النساء حتى لو بالإكراه، تماماً مثل إيران» (ص 43).

2. موقف الروائي من الشخصية الرئيسية: إنّ الكاتب الأنجع هو الذي يستطيع أن يبتعد بشكل مطلق (عدم) عن شخصياته بكل أبعادها وصفاتها، ويكون كاشفاً وناقلاً عنها فقط؛ فهل استطاعت فتحية ناصر أن تبتعد كلياً عن رجاء؟ أعتقد أنه ابتعادٌ جزئي ولكنه يظهرها كثيراً. وهنا مثالٌ آخر «تعرف نظرياً الكثير عن الجنس، ولكنها فعلياً ماتزال عذراء الإحساس، ولن تصبح امرأة كاملة حتى يجتمع الحبُ والرغبة على فراشها، وقد لا يفعلان» (ص 101).

3. الشخصيات الحقيقية: إنّ الشخصيات التي وردت في الرواية تُعبر عن أطياف حقيقية موجودة في المجتمع البحريني وتلك القريبة منه، وربما - وذلك ما أعتقده - أنها شخصياتٌ حقيقية ألبستها الروائية وجوهاً وأسماءً مختلفة للتعبير عنها، وهو ما أوضحته في مقدمتها: هذه الرواية حقيقة من واقع الخيال، وهنا مثالٌ آخر يُستشف من خلاله على ذلك: «وهل كون عبدالرحمن بن ملجم هو قاتل الإمام علي يكفي لتبرير نبذنا بل كرهنا اسماً إلهياً بهذا الجمال؟» (ص 39).

4. اختلاف الشخصيات: تمكّنت الكاتبة من أن تجعل بطلتها شخصية صانعة للحدث أحياناً وشخصية مسلوبة الإرادة أحياناً أخرى، إنّ هذا التنوع أعطى البطلة صفاتٍ مستقلة ولكنها خضعت لإبداع الكاتب قبل أن تنمو إلى موقف الاختيار؛ فقالت: «لا أريد أن أتزوج حين أمَّل من هذا (الجنس)، لأن قراري حينها لن يكون متأثراً بنزواتي» (ص38). ثم قالت: «لماذا نُحرمُ الشطرنج وألعاب الورق طالما ليست تلك الألعاب مقترنة بالقمار؟» (ص 40).

7. الابتعاد عن السلوك الذاتي: لاشك أن الشخصية الروائية في بداية ظهورها الروائي تمثل اختيار الكاتب، ولكن ينبغي لها أن تسلك سلوكاً ذاتياً بعيداً عن رغبته مع تعاظم الأحداث نتيجة للخلفية النفسية والاجتماعية والفكرية؛ لقد كبرت شخصية رجاء تبعاً لذلك. فقالت «وحدها المرأة المغامرة تعرف قيمة الحياة العادية للمرأة» (ص 39)، ولكن خاتمتها كانت تبعاً لرأي الروائية حيث جاء فيها «كل ذلك زيفٌ وخداع. والحقيقة أنه لا توجد صداقة بين الرجل والمرأة» (ص 102). وهنا أمثلة أخرى لتساؤلات الروائية وليس البطلة الراوية «لماذا تكلف الفتاة في مذهبنا بالقيام بواجباتها الدينية في سن التاسعة في حين يكلف الصبي في الخامسة عشرة؟». يقولون لأن الفتاة أكثر نضجاً وذكاءً ثم يقولون إنها ناقصة عقل ودين» (ص 39). «لماذا لا نشتري الأشياء الجديدة في شهر صَفَر؟» و «لماذا نقول للطفل حين يقع أرضاً: علي طلعك؟» (ص 40).

8. الراوي الناقل للحدث: قد يتيه الكاتب أحياناً بين ذاته وبين ذات شخصيته، فيصبح الروائي (novelist) راوياً بينما ينبغي أن يبقى الراوي (narrator) ناقلاً للقصة فحسب. وهنا مثال يظهر شيئاً من الخلط بينهما: «إن المجتمع ينبغي أن لا يعامل الفتاة (المغتَصبَة) وكأنها مذنبة» (ص 94). فلمن تلك الكلمات؟

9. الروائي المستشار: ويمكننا أن ننظر إلى نوع آخر من الرواية على أساس أنه نوع جيد أيضاً، وهو النوع الذي يقف فيه الروائي كمستشار للشخصيات يمدّها بالنصائح في أوقات الحاجة. «مصداقية الحب هي في أن يكون بلا أسباب» (ص 91). وقد يظهر وعي الروائي ويتكون لدينا إدراك واضح بأن الروائي أكثر وعياً من شخصياته. «إن التاجر يعرض في واجهة محله أجمل وأثمن ما لديه، فهل يبرر ذلك لأي أحدٍ أن يسرق ما أعجبه؟» (ص 43).

ختاماً، ينبغي أن نذكرَ أن (الروائي) يمثل الأنا الأولى كمؤلف ولكنه يختفي لتظهر الأنا الثانية له من خلال (الراوي)، فيكون (وجود) الشخصيات من خلال الروائي ولكنها تستمر من خلال (الرواي) حينما يخرج الروائي للعدم، وهو المبدأ الذي نادى به هنري جيمس في كتاباته، وهو أيضاً ما دفع تولستوي مثلاً لأن يعرض إحدى شخصياته من خلال حصان، وتحدث تشيكوف عن وعي كلبة، وأبدع غازي القصيبي على لسان (جِني).

العدد 4501 - الجمعة 02 يناير 2015م الموافق 11 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً