العدد 4501 - الجمعة 02 يناير 2015م الموافق 11 ربيع الاول 1436هـ

«أبو عليوه»: ونهر بني جمرة المفقود

تحدثنا في الحلقة السابقة عن نظام الثقب الذي كان يمتد بين أربع قرى (المرخ والقرية والجنبية وبني جمرة)، هذا النظام عبارة عن شبكة من القنوات المتشابكة تبدأ في قرية المرخ، وتمتد غرباً لتصل حتى ساحل الجنبية. وتحتوي هذه القنوات على أكثر من 40 ثقبة، أي فتحة على سطح الأرض، تتوزع بينها أربع قبب كبيرة أو غرف تحت الأرض.

ولم يتم توثيق إلا آثار بسيطة من هذا النظام المائي المعقد. ولم يتبقَّ من تلك الغرف التحت أرضية إلا عين واحدة في قرية المرخ، وهي عين «أبو عليوه». هذه العين بقيت ردحاً طويلاً من الزمن، حتى دفن ما تبقى منها قبل عقد من الزمان تقريباً. وهذه العين كأنها غرفة كبيرة تحت الأرض، ولها سقف عال مقوس ذو أعمدة تتشعب من عمود مركزي، ولها سقف خاص وأرضية من الجبس المتين مغطى بالرمل الأبيض الناعم، ويوجد مجرى ماء بارد كان، حتى الخمسينات من القرن الماضي، لا ينقطع انسيابه خلال الغرفة، وكان يستعمله سكان قرية المرخ، والقرى المجاورة، كحمام؛ حيث يذهبون إليه إبان حرارة الصيف ويجلسون في راحة بالمكان الظليل البارد تحت سطح الأرض.

وترتبط بهذه الغرفة التحت أرضية قناة تحت أرضية كبيرة، تمتد من عين «أبو عليوه» وتتفرع لقنوات، منها ما يخدم قرية المرخ، ومنها قناة مفتوحة، فوق سطح الأرض، تخدم سكان قرية بني جمرة. بالإضافة إلى قناة كبيرة تحت أرضية تمتد من المرخ، وتمر بوسط قرية «القُرية»، ثم تتفرع إلى فرعين أحدهما يتجه باتجاه قرية «الجنبية» والآخر باتجاه قرية «بني جمرة». وينتهي مصب تلك القنوات في قنوات تمر فوق سطح الأرض وتفرغ على سواحل البحر (سواحل فاران والجنبية قديماً).

وعلى مدى الطريق التي تمر فيه هذه القنوات، فإنها تكون مصدر مياه الشرب والمياه التي تستخدم للزراعة، كما تبنى عليها الحمامات التي تعطى مسميات مختلفة، مثل الكسرات التي تمثل حمامات للنساء والتناقيب التي تمثل حمامات للرجال. أما بقية القنوات فتعطى مسميات مختلفة، كالنهر والكراف والسجور. وهذه المسميات تتشابه مع المسميات التي تنتشر في وسط الجزيرة العربية وجنوبها. مما يدل على وجود ارتباط ثقافي تاريخي بين شرق الجزيرة وهذه المناطق. وقد أوضحنا في سلسلة سابقة التاريخ المشترك لنظام القنوات في شرق الجزيرة العربية وعمان والإمارات واليمن. حتى أن المسميات كانت متشابهة في السابق، إلا أنه مع انقراض نظام القنوات في البحرين، انقرضت معه تلك المسميات ولم يبق منها إلا ألفاظ مشتقة أو متطورة من تلك المسميات. وهنا سنعطي مقارنة للمسميات بين تلك المناطق المختلفة.

الغيل والساقية والساب والجدول

في جنوب الجزيرة العربية كاليمن يطلق على مجرى العيون والينابيع الجوفية الجارية على السطح اسم غيل (المشوح 2009، ص 52). والغيل واردة في اللغة بالمعنى مفسه، جاء في تاج العروس (مادة غيل): «الغَيْلُ أيضاً: الماءُ الجاري على وَجْهِ الأرضِ... الغَيْلُ: ما جرى من المياهِ في الأنهارِ والسَّواقي».

وفي الإمارات وعمان يسمى الحوض المبطن الذي تصب فيه الزاجرة باسم المغيل. أما في البحرين فيستخدم اسم «غيلة»، وهي حوض مائي يصنع من خليط من الرمل والأسمنت ثم يصب الماء في وسطه، والغرض من ذلك أن يتشرب خليط الرمل والأسمنت بالماء. وعملية التغييل هي عملية مزج الجص أو خليط الرمل والأسمنت بالماء وتتم عن طريق تحضير الغيلة. ويبدو أن أصل اللفظ غيلة بمعنى حوض ماء أو قناة مائية ثم حدث تعميم للفظة.

وفي البحرين تطلق العامة على القناة، التي تحفر في الأرض والتي تخرج من مصدر الماء وتسير باتجاه الزرع لتسقيه، عدة مسميات مختلفة مثل الساقية والساب والجدول. فالساقية هو الاسم العام الذي كان مستخدماً قديماً في البحرين وحاليّاً نادر الاستخدام، وهو الاسم العربي الذي ورد في كتب اللغة.

جاء في معجم تاج العروس (مادة سقي): «السَّاقِيَةُ: النَّهْرُ الصَّغيرُ مِن سَواقِي الزَّرْعِ». والتسمية وردت برسم شبيه في الآرامية والأكدية أي «شاقية». أما الساب والجمع سيبان، فهو اسم عام يقصد به أي قناة تُشق في الأرض ويجرى فيها الماء، وقد تخصص اللفظة فتعني الساقية الرئيسية التي تخرج من مصدر الماء، وأصل اللفظة من العربية «السِّيب»، جاء في معجم تاج العروس (مادة ساب): «السِّيبُ بالكَسْرِ: مَجْرَى الماءِ، جَمْعه سُيُوبٌ».

وكذلك الاسم جدول والجمع جداول يعتبر اسماً عامّاً يقصد به القنوات التي تحفر ويجرى بها الماء، وهي الآن مساوية لكلمة السيبان، وقد تخصص اللفظة فتعني القنوات الفرعية، أي غير القناة الرئيسية، واللفظة عربية، جاء في معجم تاج العروس (مادة جدل): «الجَدْوَلُ، كجَعْفَرٍ وخِروَعٍ : النَّهْرُ الصَّغِيرُ والجَمْعُ: الجَداوِلُ».

السجر والكراف والنهر

السجر وجمعها سجور هي مصطلح معروف في وسط الجزيرة العربية وتعني «السواقي المتفرعة من قناة العين الرئيسية وهي أصغر منها» (المشوح 2009، ص 56). وهي لفظة واردة في كتب اللغة، جاء في معجم تاج العروس (مادة سجر): «الأَسْجَرُ: الغَدِيرُ الحُرُّ الطِّينِ... وتَسْجِيرُ المَاءِ: تَفْجِيرُه حَيثُ يريد». وهذه التسمية انقرضت من اللهجة البحرانية، لكنها بقيت في اسم «عين أم السجور»؛ والتي عرفت بهذا الاسم لكثرة السجور أي القنوات الفرعية التي تخرج منها، وهذا ما وصفت به هذه العين في الروايات الشفاهية.

أيضاً، من أسماء القنوات والذي ارتبط بنظام الثقب، الكراف، وهذا المصطلح معروف في قرية كرزكان، وهي قناة متوسطة الطول والعرض تكون مصدراً للماء، وهي تعرف في مناطق أخرى باسم النهر الصغير (يوسف وآخرون 2010، ص 76). هذه اللفظة، أي الكراف، معروفة منذ القدم في جنوب الجزيرة العربية؛ فقد جاء في بحث جواد علي عن ألفاظ الزراعة في نقوشات المسند لفظة «كرف» وهي النهر الصغير (علي 1985، ص 65). كذلك، فقد استخدمت هذه اللفظة في اللغة العربية الجنوبية برسم «كريف» عند الهمداني، وهو يمني، وذلك في كتابيه «صفة جزيرة العرب» و»الإكليل»، وهي بمعنى النهر الصغير، وكذلك الأخدود الذي يبنى حول القلاع والقصور ويملأ بالماء (علي 1985، ص 65).

نهر بني جمرة المفقود

ذكرنا سابقاً أن هناك قناة تتفرع من عين «أبو عليوه»، وهي قناة مكشوفة، غير مسقفة، وهي قناة طويلة تمر بقرية بني جمرة. وقد عرفت هذه القناة المكشوفة باسم «النهر». وقد كان هذا النهر يعتبر من أهم مصادر المياه في بني جمرة، وفي فترة من الفترات، كان هو المصدر الوحيد تقريباً للقرية. وقد كانت النساء في السابق يقطعن مسافات طويلة يوميّاً للوصول إلى هذا النهر؛ لجلب الماء. وربما يتكرر مشوارهن لأكثر من مرة في اليوم الواحد. كانت النساء يذهبن إلى النهر بأكثر من وعاء فخاري ليتم ملؤها، ومن ثم يعدن مثقلات من كثر ما يحملن من أواني المياه. ولقد حفر هذا المشهد في ذاكرة العديد من النساء، وربما كان هذا المشهد من أوائل المشاهد التي تتذكره أولئك النسوة من عذابات الماضي. وقد استمر حال نسوة بني جمرة مع النهر حتى بداية الخمسينات من القرن الماضي، بعد ذلك تم حفر بئر ارتوازية كبيرة، وتلا ذلك تركيب الخزان.

وهكذا، فكل قرية، من القرى التي تمر بها قنوات «أبو عليوه»، لها ذكرى معينة مع هذه القنوات. أما قرية «القُرية» فقد أرتبط مشهد الماء بها بمشهد آخر لا ينسى، بل لايزال محفوراً في الذاكرة الشعبية حتى لسكان القرى المجاورة. تفاصيل هذا المشهد نسردها لكم في الحلقة المقبلة. يتبع.

العدد 4501 - الجمعة 02 يناير 2015م الموافق 11 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً