أعترف أن الرئيس الأميركي «أوباما» استطاع أن يلقي خطابا جميلا مليئا بالعاطفة الجيّاشة مدعوما بالآيات القرآنية والتاريخ الإسلامي ومحاسن الإسلام الحضارية والإنسانية، حتى بدا وهو يلقي خطابه كأنما هو واعظ فيلسوف متمرس يتكئ بقوة على عواطف المسلمين ونفسياتهم المحطمة المتأزمة التي تنتظر أيّ قشة كي تنقذهم من الغرق الذي عانوا منه سنوات طويلة ولم يعملوا أي شيء لإنقاذ أنفسهم ظنا منهم أن الآخر هو المسئول عن إنقاذهم!
وأعترف - أيضا - أن أوباما كان مختلفا - بعض الشيء - عن سلفه «بوش» فلم نسمع منه «شتائم» قاسية مثل: إن الإرهاب متلازم مع المسلمين، وأن المقاومة إرهاب واضح، كما أنه كرر بعض الوعود السابقة وأكد أنه ملتزم بالقيام بها.
جميل من «أوباما» أن يفعل ذلك, وجميل منه أن يقول: إنه سيقول الحقيقة في خطابه، وإنه سيحترمنا، ولكن... ما هي الحقيقة التي سيقولها؟ وهل هذه الحقيقة متفق عليها بيننا وبينه أم أن له حقيقة تختلف عن الحقيقة التي نؤمن بها ونريدها؟!
الرئيس «أوباما» يدرك أن القضية المحورية بين العرب والصهاينة هي القضية الفلسطينية، ويدرك - أيضا - أن بلاده هي السبب الرئيس في كل المصائب التي لحقت بالفلسطينيين منذ احتلال بلادهم وحتى اليوم، ويدرك - أيضا - أن بلاده تملك القدرة على إنصاف الفلسطينيين، فماذا قال عن هذه القضية المهمة في خطابه الذي ألقاه في جامعة القاهرة؟
قال: إن الفلسطينيين يستحقون دولة، وإن قيام دولتهم يصبّ في مصلحة أميركا و»إسرائيل»!
الرئيس لم يقل لنا ماذا سيفعل بدقة لكي تقوم هذه الدولة، ومتى، وكيف!
ثم ما هي حدود هذه الدولة؟ وما هي الصلاحيات التي تتمتع بها؟ وهل هي دولة حقيقية أم أرض منزوعة من السلاح ومن كل شيء؟!
الرئيس - في هذا القول - لم يأتِ بجديد، فقد سبقه إليه مجموعة من الرؤساء السابقين لكنهم - جيمعا - لم يفعلوا شيئا، بل إنهم وقفوا مع الصهاينة في تمددهم هنا وهناك، فهل سيكون «أوباما» مختلفا عن سابقيه أم أن الجميع ينهلون من منبع واحد؟!
الرئيس طالب الفلسطينيين أن يتخلوا عن العنف، وأكد لهم أن العنف لا يدل على الشجاعة، وأن قتل النساء والأطفال عمل مشين، وضرب لهم مثلا بما فعله السود في أميركا حينما حصلوا على حقوقهم بالمطالبات المشروع السلمية!
هنا أقف مع الرئيس طويلا، فلست أدري هل هو ساذج إلى هذا الحدّ أم أنه يعتقد أن الذين يستمعون إليه مجموعة من الجهلة السذج؟
يجب على الفلسطينيين أن يتخلوا عن العنف - هكذا قال - ولكن لم يقل شيئا عن العنف الصهيوني ولم يقارن بينه وبين العنف الآخر - هذا إذا جاز تسميته عنفا - وليته أشار إلى العنف الصهيوني الذي أباد الآلاف ومازال، ليته أشار إلى العنف الصهيوني في غزة وقارن بينه وبين ما أسماه عنفا فلسطينيا!
المقاومون لا يملكون إلا أجسادهم يدافعون بها عن أنفسهم وبلادهم فماذا يريدهم أن يفعلوا إزاء العنف الصهيوني الذي لا يتوقف؟ ليته قال شيئا آخر!
ليته عدل في القول: أما المقارنة بين وضع الفلسطينيين ووضع السود في أميركا فهي مقارنة في غير مكانها.
الرئيس تباكى على قتلى اليهود في ألمانيا، وزار أحد معسكرات اعتقالهم هناك، ولست أنكر عليه أن يقول وأن يفعل ما يحلو له، ولكن... ما ذنب الفلسطينيين في كل ما فعله الألمان والأوروبيون بهم؟ لماذا لم يعوضهم هؤلاء بأرض من أراضيهم؟
العرب والمسلمون - كما قال أوباما - عاملوا اليهود بكل احترام وتسامح وليس كما فعل بهم الآخرون، فلماذا يُعاقب العرب على أفعالهم الطيبة؟ ولماذا يساعدهم الأميركان على هذا الظلم؟
كان يجب على الرئيس أن يتباكى على قتلى الفلسطينيين، وعلى المجازر الرهيبة التي وقعت عليهم، وكان يجب عليه أن يزور غزة ليرى حجم المجازر الرهيبة التي ارتكبها الصهاينة بحقهم ثم يرى هل أن العنف فيما يفعله المقاومون أم فيما يفعله الصهاينة!
تحدث الرئيس عن المستوطنات، وأكد أنه ضد التوسع فيها، وهذا جميل منه، لكن الأجمل منه لو أن الرئيس قال لنا ما هي الخطوات العملية التي سيفعلها لو أن الصهاينة رفضوا وقف الاستيطان والتوسع في بناء المستوطنات.
سابقوه قالوا الشيء نفسه، لكنهم لم يصنعوا شيئا، فهل سيختلف عنهم أم أن الكلام سيبقى كلاما ولا شيء آخر؟
تحدث الرئيس عن العراق وأفغانستان وقال إنهم دفعوا إلى أفغانستان دفاعا عن أنفسهم، وأن ذهابهم إلى العراق كان خطأ ولكنه أنتج دولة ديمقراطية أفضل مما كانت عليه سابقا.
الرئيس لم يتغير كثيرا عما كان عليه سلفه في هذا المجال، كان عليه أن يعترف صراحة أن ذهاب الأميركان للعراق كان احتلالا ظالما، كان عليه أن يعترف بحجم الجرائم الأميركية هناك، كان عليه أن يعتذر عما فعله سلفه من جرائم، كان عليه أن ينسحب فورا ويترك العراق لأهلها... لكنه لم يفعل ذلك.
وأيضا غزو أفغانستان لم يكن مبررا وبالكيفية التي تم فيها، وبحجم الأبرياء الذين قتلوا فيها ومازالوا يقتلون حتى الآن.
أعرف أن الذين قاموا بهدم الأبراج ارتكبوا عملا إجراميا لا نقرهم عليه، وكل الحكومات الإسلامية استنكرته، لكن ينبغي أن يكون الجزاء من جنس العمل وليس عملية انتقامية يقتل فيها آلاف الأبرياء.
تحدث «أوباما» عن أهمية الديمقراطية، وأن من حق الشعوب أن تختار حكامها، وأن أميركا تعترف بالحكومات المنتخبة.
وأيضا كلام جميل ولكن أين التطبيق؟ حماس حكومة منتخبة فلماذا لم يعترف بها الأميركان؟ لماذا حاصروها وساعدوا على حصارها؟ لماذا لا يبادر الرئيس إلى الاعتراف بها إذا كان - فعلا - يؤمن بحق الشعوب في اختيار حكامها؟
أكتب هذا المقال قبل ظهور نتائج الانتخابات اللبنانية، وأعتقد أن الرئيس قد يتردد كثيرا بالاعتراف الحقيقي بالحكومة اللبنانية إذا نجحت المعارضة وأصبح حزب الله أكثر فاعلية في إدارة شئون لبنان.
أتمنى أن يدرك - فعلا - الرئيس أوباما أن الصهاينة أصبحوا عبئا ثقيلا على بلاده، وأن وقوفه معهم ليس في مصلحة بلاده ولا في سمعتها التي يقول إنه سيعمل على تغييرها.
وأتمنى أن يدرك - أيضا - أن العرب سئموا من كثرة الوعود وإنهم يريدون عملا حقيقيا لا كلاما لا يثمر عن شيء.
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 2468 - الإثنين 08 يونيو 2009م الموافق 14 جمادى الآخرة 1430هـ