أخذت الأرض زخرفها وازينت... تجملت القاهرة من أجل استقبال أوباما وتم إخلاء جامعة القاهرة من طلابها كي يتسلمها الأمن ويوفر له الحماية التي تليق برئيس أكبر دولة.
توجس أهل القاهرة من تعويق حركتهم فحجموا من حركتهم... فبدت الشوارع خالية، كأنه يوم جمعة قبل الصلاة.
بدأت اليوم بجولة في وسط البلد، قضيت حوائجي وذهبت للبنك وأنجزت أمرا معلقا في خمس دقائق واستمتعت بالقاهرة وهي هادئة جميلة.
أدركت بدء الخطاب في البيت وجلست أمام الشاشة أستمع للسيد أوباما.
الأمر لا يتعلق بالشخص، فهو من حيث المبدأ رئيس مختلف، جذوره متنوعة المشارب وينتمي لجيل شاب، وهو من الأقلية السوداء لأول مرة في تاريخ البلاد.
لا ينبغي أيضا الاستهانة بما قاله عن الإسلام، والتواصل مع العالم الإسلامي. فهو أول رئيس يتحدث بهذه اللهجة في تاريخ أميركا.
لكن خطاب أوباما كان له أوجه متعددة... ومستويات متنوعة وجماهير شتى.
هناك أمور لا يمكن تجاهلها: أمن أميركا. هذا ما وضعه في قلب الخطاب. منه انطلق للتأكيد على الضرب بيد من حديد على من انتهكوا هذا الأمن في أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، وأن الحرب في أفغانستان كانت حتمية (لم يعتذر عن قتل المدنيين الأفغان المتكرر طوال السنوات - البتة). وأكد أن الحرب في العراق كانت اختيارا، (ولم يذكر من سيحاسب أميركا عن هذا الاختيار الخطأ ومن سيدفع ثمن الاحتلال ويعوضنا عن جرائمه).
كان لا بد بعد مغازلة الإسلام أن يرسل إشارات تطمئن الحليف الصهيوني، فقال: إن علاقة أميركا بـ «إسرائيل» غير قابلة للنقض. (من دون أن يوضح لنا هل سيظل الوضع عليه مهما فعلت «إسرائيل» من جرائم؟)
هناك قضايا كثيرة تناولها الخطاب، لكن المسكوت عنه كان أهم... والأساطير أكثر. فلنبدأ بالأساطير.
أكبرها في الخطاب أسطورة أنه لا تعارض بين قيم الإسلام وقيم أميركا، وهو أمر أسجل كمواطنة مسلمة اعتراضي عليه بشدة.
أميركا دولة أبادت السكان الأصليين، وقامت على أكتاف العبيد الذين تم نقلهم من إفريقيا، ورؤيتها استعمارية وقلبها رأسمالي. الحرية والعدالة وحقوق الإنسان قيم جميلة لكنها لا بد من تسكينها على تلك الخلفية، وبالتالي فليس مما يمكن قبوله بسهولة القول بأن قيم الإسلام تتفق مع القيم الأميركية. هذا خطاب يوفر الأمن والمكانة للمسلمين في الداخل الأميركي ربما، لكنه لا يمثل وساما على صدورنا هنا في العالم العربي والإسلامي.
الإسلام دين قام على تحرير الناس وليس ممارسة نزق إمبراطوري، وقام على تحرير العبيد والنساء، والمساواة بين الأبيض والأسود، وتأسيس احترام الأديان في دستور المدينة، وهو بذلك أكثر تقدما من القيم الأميركية القابلة للمط والتأويل بكثير.
الأسطورة الثانية هي أسطورة الحضارة اليهودية المسيحية. علاقتنا بـ «إسرائيل» غير قابلة للنقض... قال السيد أوباما تأسيسا على هذه الأسطورة، والتي نفتها دراسات حديثة عن التناقض الكامن تاريخيا بين اليهودية والمسيحية في التراث والتاريخ الغربي، والهولوكوست لم يحدث في القاهرة أو دمشق بل حدث على الأرض الأوروبية، ومن قِبل محاكم التفتيش.
الأسطورة الثالثة التي حذر أوباما من الاقتراب منها هي أسطورة الهولوكوست ذاتها، واتهم من تسوّل له نفسه بالنظر في المسألة بعدة أوصاف تمنع أحدا من التفكير وتقيد البحث التاريخي. ولست ممن ينكر المحرقة لكنني مع من قال: إنها عادة غربية، ولذا فقد كان أهل البوسنة ضحايا لمحرقة، بل أهل اليابان ضحايا محرقة من نوع مختلف: نووي!
الأسطورة الرابعة هي عدالة الآلة العسكرية الأميركية، فالحروب من أجل العدل والحرية، وليس من أجل الهيمنة والسيطرة. وقد قابلت شابا من الجيش الأميركي في القاهرة وسألته بصراحة هل قتلت من أهل العراق أحدا فقال بوضوح لا، لكنه أردف: «لكنني رأيت زملاء لي يقتلون دون محاسبة فقط لأن القتل ممكن ولأنه سيمر دون عقاب». وما زالت أميركا لا تحاسب جنودها اللهم إلا على الجرائم البشعة التي يتم الكشف عنها، والجندي الذي اغتصب وقتل لم يتم إعدامه، بل سجنه. أرواح الآخرين أرخص.
آخر الأساطير أسطورة أميركا الرحيمة التي تريد أن تشارك مالها وعلمها مع العالم، وقد ضحكت حين قال سنوفر المزيد من المنح الدراسية لشباب العالم الإسلامي، فهم بالفعل يعانون من تقييد اختياراتهم في التخصصات العلمية ووضع العراقيل أمام سفرهم للدراسة، اللهم لو كان سيبدأ برنامجا لمنح السلام كالذي قدمته أميركا لمصر في السبعينيات وقام على تقديم صورة جيدة لأميركا، ولم يثمر الكثير على مستوى رفع الكفاءة العلمية في داخل أوطاننا، ومعظم من استفادوا بقوا هناك ليصب الخير في أميركا وليس في بلدانهم الأصلية.
لكن أوباما متحدث لبق، وله حضور، لذا أعجب بعضهم به، لكنني سألت الكثير من الناس في الشارع فقالوا مللنا من الكلام.
فإذا ما سألنا عن المسكوت عنه في خطاب أوباما فهو بالتأكيد سبل وقف المستوطنات، وطريقة إنصاف الشعب الفلسطيني، واسترداد حقه في أرضه وحق العودة، هذا الشعب الذي صوره أوباما وكأنه يبحث عن أرض كما يبحث الشعب اليهودي وتصادف وجوده في المنطق ويجب مراعاة طموحاته! وليس أن هذا الشعب تم طرده من أرضه والتنكيل به عبر المذابح والحروب، وأن الجاني هو هذا الشعب المختار الذي لا يمكن فصم العلاقة بينه وبين أميركا.
المسكوت عنه أيضا هو السلاح النووي الإسرائيلي، والذي لم يتحدث عنه أوباما.
والمسكوت عنه الأكبر هو الديمقراطية في العالم العربي، وصدق من قال إن الخاسر الأكبر من خطاب أوباما هم الليبراليون والديمقراطيون العرب... فلم يتحدث أوباما عن الأنظمة العربية ولم ينتقد النظم الاستبدادية وعلى رأسها النظام المصري والنظام السعودي، ولم ينتقد أي شيء - اللهم في إشارة لإجبار النساء على الحجاب في إشارة للسعودية وإيران. أعتقد أنها جاءت بإيعاز من زوجته التي لم تحضر للمنطقة متعللة بامتحانات البنات، في حين تم تأجيل امتحانات أولادنا نحن لتأمين زيارة أوباما لجامعتنا ومنحنا إجازة لنجلس في البيوت نستمع له.
المضحك - وشر البلية ما يضحك - أن الحضور كانوا يصفقون لأوباما حين يمتدح الإسلام، وكأننا كنا في انتظاره ليقول هذا، وأن الترحيب بخطابه على الفضائيات كان عارما، وكأنه رد لنا الأقصى.
الرجل خرج من القاهرة إلى ألمانيا ليزور معسكرا من معسكرات اليهود أيام النازي، وكأن زيارته جاءت شطرين: لقاء نتنياهو في واشنطن... وزيارة ألمانيا، وما بينهما محض حشو.
تابعت تصريحاته في ألمانيا فوجدته يتحدث عن الطاقة والبيئة وقضايا الأزمة المالية. لم يتحدث للعالم الإسلامي في هذه الأمور، يمكنه أن يرتب العالم مع حلفائه عبر الأطلنطي في أوروبا لكن أمور الأزمة المالية والطاقة والبيئة لا دخل لنا بها - نحن عرب... وهذه قضايا دولية - بالطبع.
جاء أوباما... وذهب أوباما. صديقة تعمل في دوائر صنع السياسة الأميركية من أصول عربية سألتني: ما رأيك في الخطاب؟ قلت لها: ممتاز، لكن لا دخل له بمستقبلنا.
مستقبلنا نصنعه نحن، ويوم نفعل سيأتي أوباما ليقول كلاما آخر.
ولا عزاء لنساء أفغانستان ولا لأطفال العراق ولا لشعب فلسطين.
لا عزاء للشعوب، وكل التهاني لحلفاء أميركا الجالسين على العروش.
وكل زيارة وأوباما طيب.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2468 - الإثنين 08 يونيو 2009م الموافق 14 جمادى الآخرة 1430هـ