العدد 4494 - الجمعة 26 ديسمبر 2014م الموافق 05 ربيع الاول 1436هـ

«المرخ»: حيث قنوات المياه ومصدرها

المنامة - حسين محمد حسين

ناقشنا في حلقة سابقة وجود نظام مائي مشترك بين قرى فاران القديمة والجنبية وبني جمرة وسار والمرخ. وهذا النظام يتكون من عيون طبيعية وشبكة من القنوات التحت أرضية، وهو نظام عرف منذ القدم (حقبة ما قبل الميلاد)، واتبع في الكثير من الأماكن في العالم، ويكثر في منطقة الجزيرة العربية، وعمان والإمارات بشكل خاص، ويعتبر من الأنظمة الفريدة للحصول على المياه من باطن الأرض عبر آبار عديدة يربط بينها قنوات أرضية تصل في آخرها إلى سطح الأرض.

هذه الطريقة في توزيع الماء عرفت في البحرين باسم «لفگب» أي الثقب وذلك إشارة للحفر أو الثقوب المتجاورة التي تظهر على سطح الأرض كالمداخن خارجة من تلك القنوات التحت أرضية وهذا يعني أن العامة في البحرين عممت مسمى «الثقب» على هذا النوع من أنظمة الري. بينما في مناطق أخرى في الخليج، وبالتحديد في سلطنة عمان، عرف هذا النظام باسم الأفلاج ومفردها «فلج».

قرية المرخ ومنبع الثقب

نظام الثقب الذي كان يخدم فاران والجنبية وبني جمرة وبر سار وسار، كان يبدأ في قرية المرخ حيث كانت توجد عدد من العيون الطبيعية فيها وهي التي تزود القنوات والثقب التي تكون شبكة من القنوات التحت أرضية، وهي بدورها تزود بقية القرى بالماء. وقرية المرخ هي إحدى القرى القديمة في البحرين؛ يدل على ذلك وجود هذا النظام المائي المعقد والذي سبق أن ذكرنا أنه تم تجديده وتوسعته وإعادة استخدامه في الحقبة العيونية قرابة القرن الثاني عشر الميلادي. إلا أننا لم نجد ذكر قديم لاسم قرية المرخ. وسبق أن ذكرنا أن أهالي قرية المرخ عملوا في مهن شبيهة تماماً بالمهن التي عمل بها أهالي القرى المجاورة، بما في ذلك حرفة النسيج، والتي تشمل حياكة الأشرعة والعبي.

واسم المرخ اسم قديم، ارتبط بعدة مناطق في الجزيرة العربية، منها ما يقع في جنوب الجزيرة ومنها ما يقع في شمال غرب الجزيرة (راجع معجم البلدان للحموي مادة مرخ). وفي العصر الحاضر توجد قريتين تحمل مسمى المرخ، إحداها في شمال غرب الجزيرة العربية في محافظة أبلج، ومنها ما يقع في جنوب الجزيرة العربية في اليمن. والمرجح أن قرية المرخ عرفت بهذا الاسم، أي المرخ، وذلك لأنها المنبع الذي يزود القنوات التحت أرضية بالماء. ونرجح كذلك أن أصل المصطلح «المرخ» من اللغة العربية الجنوبية وذلك للتشابه في طريقة بناء الثقب وكذلك للتشابه في مصطلحات نظام الثقب.

البحرين وجنوب الجزيرة العربية

عُرف نظام الثقب في الحضارات القديمة في إيران وبين النهرين وعمان واليمن، ولا يمكننا أن نخص هذا النظام بحضارة معينة. إلا أن نظام الثقب في البحرين قريب الشبه بما يوجد في اليمن وعمان ومناطق في الجزيرة العربية. ويبدو أن البحرين تأثرت، في الغالب، بالنظام الموجود في جنوب الجزيرة العربية، حيث أن الألفاظ والمصطلحات المحلية المرتبطة بهذا النظام معروفة في جنوب الجزيرة العربية وكذلك في نقوش المسند (أي في اللغة العربية الجنوبية).

إن تشابه الألفاظ بين البحرين وجنوب الجزيرة العربية يؤكد على قدم هذه القنوات؛ حيث أن العلاقات بين البحرين وجنوب الجزيرة العربية قديمة، تعود لما قبل الإسلام. وقد كانت البحرين تستخدم حروف المسند في كتابة لغتها، وهي لغة عربية بائدة عرفت باللغة الحسائية؛ وقد تناولنا ذلك بالتفصيل في حلقات سابقة من هذه السلسلة. هذا التداخل بين خط المسند (الخاص باللغة العربية الجنوبية) واللغة العربية المحلية، أدى لإدخال مصطلحات اللغة العربية الجنوبية، إضافةً لوجود جذور مشتركة لهذه المصطلحات. ولتوضيح ذلك سوف نتناول هنا تفاصيل التداخل في تلك المصطلحات.

المرخ والمريخ والمارخ

المريخ في اليمن هو «اسم لمجرى مائي تنحدر مياه سيوله من جبل كدور ويلتقي بوادي حبَّان أسفل المجازة ومن نقطة الالتقاء تلك تبدأ أولى ينابيع الغيل بالتدفق من جوف الأرض»(حبتور 2007)؛ أي أنه المجرى القريب من العين الرئيسة. ويرجح حبتور أن لفظة مريخ مشتقة من لفظة مارخ أي جاري (أنظر تاج العروس مادة مرخ)، ويعلل ترجيحه بأن «جريان مياه الغيل تبدأ من عند مصبه في وادي حبَّان، ومن الملاحظ أن المعجم السبئي لم يورد شيئاً عن جذر ذلك الاسم، ومن الأسماء المعروفة ذات العلاقة بذلك الاسم: مَرْخَة، والمرخ» (حبتور 2007). وينفرد الفيروزأبادي، في معجمه «الاوقيانوس البسيط في ترجمة القاموس المحيط» بشرح لفظة مارخ، فيقول ماء مارخ أي ماء جاري، والمارخ هو مجرى الماء (مادة مرخ). والمريخ مصغر المرخ، وقد ورد اسم المرخ كمسمى لمناطق وأودية في جنوب الجزيرة (حبتور 2007). ويبدو أن اسم المرخ يأتي بمعنى مكان مجرى الماء أو مصدر سواقي المياه. وربما سميت قرية المرخ بهذا الاسم لهذا السبب.

النقب والفقب والتنگاب والتنگوب

في الكتابات العربية الجنوبية التي عثر عليها في اليمن والتي كتبت بخط المسند، يعبر عن القنوات التحت أرضية، أي ما يتعارف عليها محلياً باسم الفقب (أي الثقب)، باسم نقب ومفردها نقبة. كذلك، أطلق العبرانيون على هذه المجاري اسم «نقبة» (علي 1985, ص 64). يذكر أنه في منطقة سيبان الواقعة في جنوب حضرموت كانت تبنى قنوات شبيهة بنظام القنوات والثقب الموجودة في البحرين، وتسمى في حضرموت نقابة ونقاب. وهذه القنوات كانت تحفر في الأرض ثم يتم تغطية جزئها العلوي بسقف، وتترك للقناة فتحات عرضها حوالي المتر؛ ليؤخذ منها الماء من الجوف؛ حيث يكون عمقه ما بين ثلاثة إلى أربعة أمتار (علي 1985, ص 64) .

هذه الفتحات التي يبنى حولها بالحجارة لتصبح شبيهة بالآبار تسمى في البحرين باسم التناگيب (التناقيب) أو الفقب؛ كذلك في شرق الجزيرة العربية ووسطها تسمى هذه الفتحات التناقيب. وهناك مواضع في الجزيرة العربية يحمل اسم «تناقيب»، وقد شاع مصطلحي النقبة وجمعها تناقيب بمعنى خزانات مائية أرضية وذلك في الأدبيات العلمية، ليس فقط في الجزيرة العربية وإنما أيضاً في المغرب العربي (بجاوي 2005). وربما كانت هذه المصطلحات متعارف عليها عند العامة. والعامة في البحرين تستعمل صيغة خاصة للمفرد المعرف من مصطلح «التناقيب» وهي «التنگاب» (التنقاب)، ويقال أحياناً التنگوب (التنقوب)، هذا المصطلح عند العامة يعني إحدى فتحات القناة أي مفرد تناقيب، لكنه يأتي أيضاً بمعاني أخرى؛ ففي كل من قرية القُرية وقرية كرزكان يعني حمام خاص للرجال.

وبالرجوع للمعاجم نلاحظ أن نقب تعني ثقب وتعني أيضاً الطريق الضيقة (تاج العروس مادة نقب)، بينما في العربية الجنوبية تعني قنوات تحت الأرض أو مخازن مياه أرضية، وهناك من يأتي بالجمع منها على صورة «تناقيب». وعليه فالمرجح أن أصل المصطلح المحلي من العربية الجنوبية. يذكر أن هناك من يزعم أن أصل مصطلح تناقيب وتنقاب (أي تنگاب) فارسي؛ حيث أنه يشبه مصطلح فارسي «تنگ آب». ليس لي إطلاع واسع في اللغة الفارسية ولا أعرف الرابط بين المصطلحين، إلا أنه في اتصال شخصي مع الباحث علي أكبر بوشهري، أكد أنه لا يرجح أن هذه المصطلحات من أصل فارسي، ويرجح أصلها العربي. كذلك، بالرجوع للمعجم الإنجليزي الفارسي Aryanpur & Aryanpur, 1992)) يتضح لنا أن مصطلح «تنگ آب» تعني watertight أي محكم، لا يسمح بمرور الماء، ومنه اسم سد «تنگ آب». أما خزان الماء بالفارسية فهو «تانك آب».

أضف إلى ذلك وجود مصطلحات أخرى في البحرين مرتبطة بنظام الثقب، وهذه المصطلحات ذكرت نصاً في نقوش المسند وكذلك في لهجات جنوب الجزيرة العربية وهذا ما سوف نتطرق له بالتفصيل في الحلقة القادمة.

العدد 4494 - الجمعة 26 ديسمبر 2014م الموافق 05 ربيع الاول 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً