قصة زرياب مع إسحاق الموصلي بعد أن طار به الرشيد فرحاً لعذوبة صوته وحُسْن ألحانه؛ وما حدث من حسد وغيرة كادت تفتك بالموصلي؛ ما دفعه إلى تخيير زرياب أن يخرج من بغداد أو أن يغتاله (وصل الأمر إلى التهديد بالاغتيال، وليس الوشاية فحسب)، تضعنا أمام حقائق ثلاث وقتها: الأولى أن زرياب لم يأتِ من حيث أداؤه الغناء بما لم يؤتَ الموصلي؛ لا من حيث عذوبة الصوت، ولا من حيث الأداء، وما لفت الرشيد هو الخروج على أداء ونمط سائد في الموسيقى وقتها.
الثانية، أن الشعر كان في أوج ازدهاره ولم يكُ يعاني من ضمور، ولا يصل إلى قصور الخلافة أو الأمراء إلا ما يمثل الذروة منه، وذلك شائع، لكن الذين يُحْسنون الموسيقى والغناء بحيث تستقطبهم دور الخلافة أو الأمراء والأثرياء يُعدّون على الأصابع، وساد ما يشبه الاحتكار لتلك الصنعة ضمن عائلات وقتها.
الثالثة، ومع ما ذُكر، ظل الشعر يقود اللحن والغناء، في تركيبة وتلازم من حيث جودتهما وفريد ما يُؤتى منهما؛ علاوة على ذلك لم يستطع الغناء مع شيوعه في تلك الفترة الزمنية، وعلى رغم ما يشيعه (الغناء - الموسيقى)، من أجواء نفسية مستقرة تركن إلى الدعَة والترويح عن النفس، وصولاً بها إلى المُجون والإسراف في أحيان كثيرة، إلا أنه لم يسحب البساط عن الشعر.
تلك معادلة تبدو اليوم خارج النظر إليها والتفكير بها أساساً ما تُسمّى الموسيقى العربية اليوم، هي المهيمنة على الكلام (الشعر)، الرخو والركيك والمُبتذل في كثير من الأحيان، والأصوات في كثير منها تتولى تغطية «نهيقها» أجهزة تحسين وترخيم و «تنعيم»! لا موسيقى عربية اليوم بمعزل عن ذلك، إذا ما استثنينا جهود أسماء لا تتجاوز عدد أصابع اليدين، وتبدو السوق العربية مغلقة أمام معظمها، توجُّهاً نحو السوق الأوروبية التي احتفت ببعضها أيّما احتفاء، ونعني هنا الاشتغال على السمفونيات وإدارة الأوركسترا.
وكل البرامج الأميركية والأوروبية التي تم شراؤها، وتعريبها، وبالتحديد «خلْجنتها»، من قبل قنوات في دول نفطية، لديها إمكانات استقطاب إعلانات، وتفريغ جيوب المتابعين والمشاهدين عبر رسائل نصية توقعهم في فخ جوائز تحقق مداخيل بالملايين وقيمتها ما يُقدّم للجمهور المُسْتَغفل هو فتات لا يتجاوز بضع آلاف، ارتكز مشروعها على الأصوات، وإعادة إنتاج أعمال وأغنيات سبقت، وهي في كثير منها محكومة إما بـ «الردْح»، وإما بانقياد الكلام - الرديء - في كثير من الأعمال الغنائية، إلى ذلك «الردْح» ويقدم إلى الجمهور باعتباره فنّاً!
عدد الأعمال التي يمكن أن تحقق المعادلة - عربياً - تكاد تكون بعدد المعارضين السياسيين الذين ينالون البراءة من محاكم بلدانهم؛ أو لنقُلْ: عدد أصحاب المليارات الذين يحيون حياة البسطاء، من دون بخْل فيهم، ويذهب جزء كبير من أموالهم إلى أعمال البِرِّ، وعدد الأعمال المهيمنة على المشهد، بعدد المتهمين والموقوفين بتهم جنائية في سجون العالم العربي؛ أو لنقُلْ: بعدد المفسدين في أرضنا العربية!
توافرت في ذلك الزمن الموسيقى في أبدع أدائها والجديد من أشكالها، كما توافر الشعر في ذروة معانيه وسبْكه، وتأتت لذلك أصوات حيكت حولها القصص التي رأى بعض أنها من المبالغات، ويكفي الرجوع إلى أبي الفرج الأصفهاني، في كتابه «الأغاني»؛ للوقوف على شيء من ذلك.
مقابل ذلك، يكفي الرجوع إلى البرامج الغربية التي تُبْذَل جهود فاشلة لتعريبها و «خلْجَنتها»؛ لتكشف أصواتاً وأداءات هي واقعاً: «نهيق آيدول»!
ومن حيث البدء بزرياب، نختم بخروجه أول الأمر إلى بلاد الشام ثم إلى شمال إفريقيا، وإقامته زمناً في بلاط بني الأغلب في القيروان وقراره التوجُّه إلى الأندلس، بعد مكاتبة أمير قرطبة الحَكَم بن هشام الأموي، وبدء نشاطه فيها؛ مؤسساً دار المدنيات للغناء والموسيقى؛ وتضم أبناءه الثمانية وابنتيه، إضافة إلى عدد آخر من المغنين، وتعتبر أول مدرسة أُسِّست لتعليم الموسيقى والغناء وأساليبهما وقواعدهما؛ قبل تأسيس المعاهد الموسيقية ودور الأوبرا، وبعدها ما يعرف بعرب وعجم «آيدول»!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4494 - الجمعة 26 ديسمبر 2014م الموافق 05 ربيع الاول 1436هـ