الزائر لمدينة اسطنبول هذه الأيام، يستمتع بالأجواء السياحية المهيأ لها بامتياز، ويظن من لا يعبأ بأمور السياسة أن كل شئ فيها يدور على ما يرام. فساحة «تقسيم» التي انتفض فيها الشباب الأتراك المعارضون للحكم قبل عام، فيما عرف بانتفاضة «تقسيم–جيزي» يغمرها الحمام الوادع نهاراً ويسودها الصخب مساء، وهي تعج بأفواج السياح الذين يكتظ بهم شارع تقسيم المتلألأ بالأضواء والملئ بالرواد والمقاهي والمطاعم والمحال التجارية وبائعي الكستناء.
للشعب التركي إبداعاته المميزة في إضفاء اللمسات العثمانية على السلع الاستهلاكية ونكهات شرقية خاصة على المنتوجات الغذائية بشتى أنواعها المعروضة في «بازار بايزيد» المسقوف، و»السوق المصري» وغيره من الأسواق، ما يشكل إغراء للشراء لا يقاومه السائح مهما حاول، على الرغم من شدة ارتفاع الأسعار وتقلبها من بائع إلى آخر.
في الأسواق الشعبية تجد العروض ببذخ لما لذّ وطاب، تشعر في تجوالك بين المحال بأن البائع التركي يجهد للخروج من طبائع سلوكه الجاف الذي درج عليه في تعامله مع الزبائن، بشيء من اللطف المصطنع... أقول يحاول، لأنه لا يلبث في لحظات أن يعود لأصل السلوك والأفعال التي وصفها مؤرخ بريطاني يدعى ديفيد فرومكين، بـ «الغِلطة والشدة والقسوة والبطش عندما كانوا –أي العثمانيين- يبسطون حكمهم ونفوذهم على أكثر من عشرين قومية».
لست مغرمةً بمشاهدة الدراما التركية ومسلسلاتها لاسيما «حريم السلطان» الذي أثار ضجة وسجالاً في الشارع التركي حتى أن مكان تصويره أضيف إلى المعالم السياحية، لكن الفرص سنحت لي بزيارة تركيا مرات عدة وعلى فترات متباعدة. في ثمانينيات القرن الماضي، بداية رواجها السياحي، وفي التسعينيات بمرحلة التغيرات التي طرأت على بنيتها التحتية ومنظومتها السياحية واستعدادها لخوض محادثات مع أوروبا للحصول على عضوية «الاتحاد الأوروبي» الكاملة، فالأخير لايزال يصدّها ويماطل منذ عشر سنوات في الموافقة على انضمامها إليه، لأسباب سياسية وتاريخية.
لاشك أن اسطنبول تطورت بما لديها من تركة «إمبراطورية الرجل المريض»، وما أحدثته عليها «الأتاتوركية»، وصار لها وزنها الاقتصادي القوي الذي وضعها مجدّداً في مقدمة الدول الإقليمية، فطرق الموصلات فيها تحدثت وأنشئت الأنفاق ودخل إليها الترام وخطوط القطارات السريعة والثورة التقانية ووسائل الاتصال الحديثة من أوسع الأبواب. وتحت نظام حكم الحزب الإسلامي «العدالة والتنمية» الذي صعد إلى السلطة منذ 2001 انقلبت موازين الاقتصاد فيها خلال ثماني سنوات، ووصل حجم النمو الاقتصادي في 2010 إلى أكثر من 9 في المئة، كما اتسع حجم الطبقة الوسطى وتشكل فيها اقتصاد إقليمي قوي وقدرة عسكرية لا يستهان بها. بيد أن ثمة شيئاً ما يعكر صفاء المشهد الصاخب، تتجلى مظاهره بشكل فاقع ولا يمكن طمس معالمه في شوارع اسطنبول أو خارجها أينما حللت، أعني كثرة المتسولين واللاجئين، وتفاقم ظاهرة ارتداء الحجاب بين النساء وانتشار التحف والأعمال الفنية التي تبرز «الإسلام الصوفي»، وشعاراته المنفتحة على العلم والديمقراطية. نعم، كل شيء في اسطنبول له دلالاته ومعانيه.
قبل عام هزت «فضيحة الفساد» المدوّية التي طالت رموز حكم الرئيس رجب طيب أردوغان ورجال أعمال مقربين من نظامه، الذين تصدّى لهم جماعة الداعية الإسلامي الصوفي فتح الله غولن، المعارض المقيم في ولاية بنسلفانيا الأميركية، فكان من تداعياتها تضييق الخناق على الجماعة وشنّ حملة اعتقالات واسعة بين مناصريه.
أصدرت النيابة العامة مؤخراً مذكرة جلب وإحضار للداعية غولن، بتهمة قيادة مجموعة إجرامية إرهابية، والمعني بها «حركة خدمة» التي أسسها منذ سنوات. رافق الحملة عملية تطهير لأجهزة الدولة لكل من يشتبه في انتمائه للحركة التي يعتبرها الحكم «كياناً موازياً» بسبب تغلغل عناصرها في سلك القضاء والشرطة والتعليم والإعلام، فأمرت المحكمة بحبس المدير الإعلامي هدايت كراجة، الذي يدير قناة «سمانيولو» التلفزيونية القريبة من غولن، وثلاثة آخرين على ذمة التحقيق، بتهمة الانتماء إلى جماعة إرهابية وصفها أردوغان بـ»عمليات قذرة» يقوم بها خصومه. كذلك اعتقل رئيس تحرير صحيفة «زمان» المرتبطة بغولن، أكرم دومانلي، ثم أطلق سراحه ومنع من السفر قبل محاكمته بوضعه تحت الرقابة العدلية.
استناداً لما سبق، يرى مراقبون أن أردوغان يشن حملته على عدة محاور داخلية، أبرزها مع جماعة غولن، وخارجية مع الاتحاد الأوروبي، الذي وجد في حملات الاعتقال ما يهدّد الديمقراطية وحرية التعبير، ويتنافى والقيم الأوروبية، إذ هاجم أردوغان «الاتحاد» في خطاب ألقاه في محافظة كونيا، عند تدشين خط جديد للقطار السريع قائلاً: «إن أوروبا لا يمكنها أن تعطى تركيا درساً في الديمقراطية»، وذكر أثناء تدشين منشأة جديدة للطاقة: «نحن لا نهتم ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سوف يأخذنا أم لا؟ الآن نحن نركّز على حماية أمننا القومي. يقولون إن الأمر يتعلق بحرية الصحافة، لكن الأمر ليس له علاقة بحرية الصحافة على الإطلاق».
في هذا الشأن يشير المحللون إلى المحاولات الحثيثة لأوردغان، لتغيير نظام الحكم إلى نظام رئاسي بهدف تعزيز صلاحياته والتفرّد بالسلطة، وعزل كل ما يمكن أن يهدّد عرشه. ومنه يجوز إثارة السؤال: هل تعكس هذه المظاهر، حالة ضعف وتراجع لنموذج حكم الإسلام الذي تمثله «الأردوغانية»؟
من البساطة والتسطيح القول بحالة الضعف والتراجع، لاسيما عند مراجعة تقرير «مؤسسة الشفافية الدولية» حول الفساد لعام 2014. صحيح أن تركيا احتلت المركز 64 لمؤشر الفساد على القائمة من بين 175، وهو رقم لافت ويمس مباشرة -إن صح التقدير- نزاهة الحزب الحاكم، «العدالة والتنمية» وسمعته المحلية والدولية؛ وصحيح أيضاً كشف عن تراجع في مؤشر أداء وكفاءة القطاع الحكومي من 50-49 بين 2012-2013 إلى 45 نقطة في 2014، ما يعني تراجع أداء وكفاءة القطاع العام التركي، لكن الصحيح أيضاً، وحسب التقرير ذاته، أن تركيا تتصدر مؤشرات التنمية مقارنةً بدول أخرى في الشرق الأوسط، لاسيما وأن حجم ناتجها القومي بلغ 734 مليار دولار، وهو يقارب مجموع الناتج القومي لكل من السعودية (434 مليار دولار)، وإيران (331 مليار دولار)، كمنافستين إقليميتين لها. بل إنها تتفوق عليهما من حيث مؤشر عدد السكان في قلة عدد وفيات المواليد ونسبة الأمية.
وعليه فتركيا التي تتدخل في شمال العراق وتتسبب في تدمير سورية، وتشكّل معبراً لانتقال الإهاربيين إليها، وتقضم مساحات من الجغرافيا العربية بسبب انهيار النظام العربي واتساع تطلعاتها في إعادة إنتاج «الإمبراطورية العثمانية»، لاتزال تتمتع بعوامل -وفقاً لمؤشرات التنمية الاقتصادية والبشرية- تمكّنها من لعب دور إقليمي قد تتفوّق فيه على من ينافسها سياسياً، لِمَ لا والبعد الاستراتيجي الذي اتخذته «الأردوغانية» في «نهج العثمنة» لم يكن سحابة حلم صيف بقدر ما كان ولا يزال خياراً مدروساً بدأ يتبلور أكثر فأكثر مع التطورات الإقليمية التي حدثت، والسقوط المدوّي للنظام القومي العربي الذي دخل مرحلة الظلام والانحطاط بقبول الاستعمار وفقدان السيادة الوطنية بالتدخلات الأجنبية.
إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"العدد 4491 - الثلثاء 23 ديسمبر 2014م الموافق 02 ربيع الاول 1436هـ
عجيب
اللمسات العثمانية وليست التركية التقليدية ...عجيب أمركم ياعرب ؟ ممكن تقبل مصطلح محاولات العودة للحقبة العثمانية المتخلفة في السياسة ولكن ذلك المصطلح أو التسمية لا تحمل أية صفة جمالية بل العكس كارثية