العدد 4487 - الجمعة 19 ديسمبر 2014م الموافق 26 صفر 1436هـ

فيلم «الشجرة النائمة»: شاعرية ورمزية عاليتــان ولعب على الزمن

قُدِّمَ عرضه العالمي الأول في «مهرجان دبي» السبت الماضي

الوسط - منصورة عبدالأمير 

19 ديسمبر 2014

القفز أو التنقل بين أزمان مختلفة، بعضها افتراضي خيالي وبعضها الآخر واقعي. اللعب على ثيمات شاهدناها مسبقاً في أفلام الثنائي الكاتب والسيناريست فريد رمضان والمخرج محمد راشد بوعلي... هما أول ما يمكن أن يلفت انتباه من يشاهد فيلمهما الأخير «الشجرة النائمة». هذا الفيلم الذي قُدم عرضه العالمي الأول في الدورة الحادية عشرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي (10 - 17 ديسمبر/ كانون الاول 2014)، يعتبر أول فيلم روائي طويل لبوعلي والثالث على قائمة الأفلام التي كتب فريد قصتها ونصها السينمائي.

عُرض الفيلم مساء السبت الماضي الموافق 13 ديسمبر 2014 على مسرح مدينة أرينا بمدينة جميرا في دبي، وحضر العرض جمهور غصت به قاعة العرض التي تسع آلاف المتفرجين.

الفيلم حضر المهرجان متنافساً مع 15 فيلماً على جائزة المهر المخصصة للأفلام الروائية الطويلة، والتي فازت بها هذا العام المخرجة اليمنية خديجة السلامي عن فيلمها «أنا نجوم، بنت العاشرة، ومطلقة».

يتناول الفيلم قصة زوجين، جاسم (جمعان الرويعي) ونورا (هيفاء حسين)، تتوتر حياتهما بعد اصابة ابنتهما الوحيدة «أمينة» بالشلل الدماغي، وبعد أن فقدا قبل ذلك ابناً بالمرض ذاته قبل سنوات. يندفع جاسم، المأخوذ بحزن شديد ويأس من أي قدرة على مساعدة الصغيرة، في رحلة تأخذ به إلى «شجرة الحياة» وإلى كل ما ترمز إليه هذه الشجرة وما تحمله من تناقضات تعطي لمفهومي الحياة والموت فلسفة مختلفة.

«شجرة الحياة»، هذا المعلم التاريخي البحريني، يحضر بقوة في الفيلم حاملاً رمزية عالية كاشفا عن فلسفة عميقة يتبناها جاسم المكلوم بألمه ويأسه وبفقده لأبنائه. تستعيد الحياة معناها عند هذه الشجرة ويتجدد الأمل بغد أفضل.

غياب... انتظار... فقد

في هذا الفيلم، كما ذكرت، نجد الثيمات ذاتها التي لعب عليها الثنائي رمضان وبوعلي في أفلام سابقة، لكنها هنا تبدو أكثر نضجاً وأقوى دلالة. سنجد ثيمتي الغياب، والانتظار واضحتين في أكثر من مشهد. عبدالله، الفقيد الأول، وشقيقته أمينة، الفقيدة الثانية، في زمن افتراضي، يجلسان على احد فروع شجرة الحياة انتظاراً لوالدهما في أحد المشاهد الأولى. يستعجل شقيقته، لأن عريسها ينتظر، يخبرها أن لا فائدة من انتظار الأب الذي لم يحن وقت قدومه بعد. نورا تطلب من جاسم في اكثر من مشهد ان يفتح الباب لطارق ما كما كانت مريم زيمان تطلب من عبدالله ملك في فيلم «غياب».

من الثيمات التي تتكرر أيضاً، تلك التي نجدها في مشهد يجمع الأب جاسم مع طير كناري، يخاطبه وينتظران معاً حتى يموت الطائر. تماما كما فعل سعد البوعينين في فيلم «كناري»، الفرق الوحيد أن الكناري هنا يموت فيما يطير في «كناري». طائر الكناري يحضر مرة أخرى في أحد المشاهد الأخيرة، محمولا في قفص يحضره عبدالله، الفقيد الأول. إنها الحياة تعوض جاسم ونورا.

ما يتكرر أيضا مما هو مألوف من بوعلي هو الإيقاع البطيء للفيلم وخط السرد الثابت. وللوهلة الأولى قد يرى البعض أن هذا الإيقاع لن يكون ملائما لفيلم روائي طويل تزيد مدته على الساعة. لكن أمراً آخر قوى هذا الجانب، سيكون موضع الحديث في النقطة التالية من هذا المقال.

لعبة الزمن

سيناريو فريد ولعبة القفز بين أزمان متعددة هو ما قوى خط اخراج بوعلي. بدت حرفية الكتابة ونضجها واضحين في السيناريو الذي استطاع ان ينتقل بنا عبر ازمان مختلفة، بعضها واقعي والآخر افتراضي خيالي. بعض الأحداث يدور في الحاضر، وتنقلنا مشاهد أخرى للمستقبل وما يمكن أن يكون، فيما نذهب إلى الماضي عبر عدة مشاهد فلاش باك. قسّم فريد فيلمه إلى اقسام هي (الميت، الحي، يخرج الحي من الميت، يخرج الميت من الحي، البرزخ، المنتهى)، يمكن استشفاف الزمن الذي يقدمه الفيلم وطبيعته من الاسم.

في القسم الأول «الميت» نبدأ بمستقبل افتراضي، لا نعرف كونه كذلك، إلا بعد أن ينتهي وبعد أن يختتم الفيلم بذات المشهد الافتتاحي هذا. ننتقل بعدها إلى الحاضر والواقع (الحي) لنجد علاقة الزوجين يشوبها كثير من الجفاف، يملؤها الحزن، وتظللها الشكوك. رجل منصرف إلى أحزانه، وامرأة يضعف إيمانها بالأشياء، تعبة ومرهقة روحياً ونفسياً وجسدياً. نسمعها تقرأ قصة لابنتها المريضة عن متنزه يمتلئ بالأشجار ذات الظلال الوارفة، لكنه مخصص للأغنياء فقط، لا يصل الفقراء إلى أشجاره لأنهم يعجزون عن دفع رسوم الدخول.

بعد نصف ساعة ومنذ المشهد الذي نرى فيه جاسم يحلق لحيته، لنعتقد أن ذلك جاء استجابه لطلب زوجته ببداية جديدة، نفاجأ بتبدل الزمن، والانتقال إلى الماضي، حيث الزوجان في بداية حياتهما، ينتظران طفلاً وطبيبة تطمئنهما أن كل شيء على ما يرام، ثم ولادة لأمينة الجميلة، كما يسميانها.

الحي والميت... البرزخ... المنتهى

ننتقل مع دخول القسم الثالث «يخرج الحي من الميت» إلى الحاضر والى عيد ميلاد امينة الحادي عشر، وجاسم بلحية كثة، يبارك لها عيد ميلادها، مغالبا دموعه، فيما لا يصدر عنها أي استجابه تذكر.

بين الفلاش باك، والحاضر، ننتقل من الواقع إلى الخيال من مشهد الى آخر، الواقع والخيال يرمزان للآلام التي يعيش الزوجان وللأمل.

هذا الأمل الذي يتجدد عند شجرة الحياة وعلى أحد فروعها، حين ينقلنا فريد إلى زمن افتراضي يشاهد جاسم فيه أمينة شابة تقف على أحد فروع الشجرة.

في القسم الرابع من الفيلم المعنون بـ «يخرج الميت من الحي»، نعود إلى الحاضر، ونورا تسمع صوت تنفس ابنتها وتعلم انها بحاجة لمساعدتها، لكنها ما ان تشرع بذلك حتى يتبدل الزمن وننتقل لحاضر افتراضي تشفى فيه نورا وتتعافى.

في قسم «البرزخ» ننتقل إلى مستقبل افتراضي يشتري فيه جاسم بيتا على البحر، تشفى أمينة وتبدو شابة. ثم يحضر عبدالله شاباً. اخر أقسام الفيلم (المنتهى) نشاهد فيه جاسم يكتشف علاجاً لآلامه ويؤكد أن الحياة تطرح دائما بدائلها.

للحياة آلامها... وبدائلها

عبر كثير من المشاهد والحوارات، ينقل السيناريو فكرة أن الحياة تعوضك دائما عما تأخذه منك، واننا يجب أن ننظر لكل ما حولنا نظرة أعمق وأن للألم فلسفة مختلفة يطلعنا الفيلم عليها عبر عدة أمور. بداية، يطلعنا جاسم على الراحة التي يجدها مع الموسيقى الشعبية ليستكشف امكاناتها في تهدئة روحه.

تعيش الموسيقى في وجدانه ونفهم ذلك من مشاهد عديدة كذلك الذي يقف فيه جاسم على البحر فيما تدندن في رأسه ألحان آلة «الجربة» الموسيقية، التي يجد في عزفها والنفخ فيها شفاء لآلام روحه. في أحد مشاهد الزمن الافتراضي تعود الموسيقى إليه فيذهب إليها.

يطرح الفيلم بدائل أخرى لجاسم تتمثل في فتاة ليل، إنها الحياة بإغراءاتها المتعددة التي يؤكد سعود شقيق جاسم (يقوم بدوره الفنان ابراهيم خلفان)، أنها تستمر رغم آلامها وان كلا منا يمكن له ان يعيشها بالشكل الذي يجده مناسبا. جاسم لا يستجيب لتلك الاغراءات بل يختار الموسيقى بدلا.

ثيمة استمرارية الحياة يؤكدها الفيلم عبر حوار يتكرر في مشهد واقعي وآخر افتراضي، يجلس فيه الأخ إلى مائدة الطعام مع جاسم ونورا وابنتهما أمينة، يخبرهما أنه تأخر لأن جيرانهما يغلقون الطريق بسبب عرس يحيونه. إنه الأمل المتجدد الذي تبعثه شجرة الحياة في نفس الزوجين، وهي الصامدة رغم الجفاف وقسوة الصحراء.

وتكتمل دائرة الألم

المشهد الافتتاحي للفيلم وهو ذاته الختامي، مشهد يقدم الكثير من التفاصيل، يختصر كل ثيمات الفيلم وأفكاره. يقول الكثير. فيه نرى جاسم مندمجاً في موسيقاه، وسط ما بدا عرسا، بطلته ابنته أمينة شابة. يبدو واضحا من تعبيرات وجهه أنه يعيش ألماً كبيراً، يخالطه فرح لأن طفليه سينتقلان لعالم أفضل خال من أي ألم ومرض.

يلتقط «الجربة» من ابنه، يعزف على ألمه، ويختصر بأداء رائع كل آلام الأسرة ناقلا رسائل كثيرة أهمها أن الحياة تستمر وتعوضنا دوما. يأخذ الفتى بيد اخته ويذهبان إلى شجرة الحياة، المتشبثة بالحياة الباقية رغم كل المعوقات. هذا المشهد يحمل كثيرا من شاعرية افلام بوعلي وكتابات وفريد. تكتمل دائرة الألم مع هذا المشهد لينتهي ويخرج منه الزوجان.

أمينة عروس البرزخ

كتب بوعلي إهداء قال فيه «إلى أمي التي أنجبت امينة عروسا للبرزخ» في إشارة إلى أمينة شقيقته التي فقدها جراء اصابتها بالمرض ذاته، وإلى اعتماد الفيلم على تجربة حقيقية عايشها محمد بصدق لينقلها في فيلم سينمائي يصور كل الآلام التي عاشها والداه.

أبدع محمد في نقل سيناريو فريد المكتوب بدرجة عالية من الحرفية، وتمكن طاقمه من التعاون معه في نقل كل أحاسيس والدته، تألق جمعان الرويعي بأداء يجعله في مصاف النجوم العرب، ولا مبالغة في ذلك. هيفاء قدمت نقلة جديدة في أدائها، هي الأم اليائسة الغاضبة قليلة الحيلة، تمكنت من نقل كل ذلك في أول تجربة لها في فيلم روائي طويل. الطفلة حوراء شريف تقمصت دور الطفلة المريضة تماما. المبدع محمد حداد نقل المشاهد لأجواء الفيلم بموسيقاه الرائعة. طاقم الفيلم جميعا تعاونوا ليخرجوا فيلماً يمكن وصفه بعودة مبشرة للفيلم السينمائي الطويل في البحرين.

العدد 4487 - الجمعة 19 ديسمبر 2014م الموافق 26 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً