العدد 4487 - الجمعة 19 ديسمبر 2014م الموافق 26 صفر 1436هـ

بين النظر والبصر والرؤية... محاولة اقتراب من نص صوفي

«انظر ولا أحد» لخالد الرويعي...

خالد الرويعي
خالد الرويعي

«انظر ولا أحد»، لخالد الرويعي؛ يعيد ترتيب وقته... ترتيب نظره وبصره؛ بين خيالين/ واقعين؛ أو واقعين/ خيالين لا فرق. واقع/ خيال اشتغاله في المسرح بتجاوز الواقع من حيث تقديمه على الخشبة؛ استقلال الواقع عن الأسطورة في ذلك الاشتغال سيكون أصعب وأعمق؛ وخيال النص في واقع الاشتغال عليه أيضاً.

للذهابين شروطهما وطقوسهما التي لا يحفظها أحدنا عن ظهر قلب؛ وإلا لم يكن اشتغالاً أساساً؛ سيكون تصنُّعاً في الدقيق من التوصيف؛ كأنها المسافة والأفق الفارق بين النظر والبصر في النص الذي خرج به الرويعي على الناس. وهذه المرة أيضاً: ناس النظر حيناً وناس البصر حيناً آخر، من بينهما: الرؤية، واستراق النظر (اللمح)، وما يدخل تحت مظلة الاشتقاق أو المُؤدى أو العلامة.

في التجربة محاولة لمتخامة، أو الاقتراب من حدود النص الصوفي. أحياناً تشعر أن ثمة إعادة إنتاج لذلك النص، أحياناً في محاولة مبهرة، وأخرى لن تعدم ملاحظة أنها متعثرة وتبدو مغلقة أساساً. وذلك ما لن تجده في النص الصوفي. لا نص صوفياً ستجده مغلقاً، ستجده مفتوحاً على الرؤية والنظر والبصر والبصيرة أيضاً.

النص في امتزاجه

ثمة امتزاج بين أكثر نص، من حيث منشأ النظر والبصر في اللغة من جهة، والنص القرآني من جهة ثانية، وملامح تعززه من حيث الرواية؛ سواء عن طريق الحديث النبوي الشريف، وذلك ما يورده الرويعي، من رواية جرير بن عبدالله «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري»، والوحي بالاختلاف البيّن بين المعنيين، أو عن طريق الاستلهامات والشواهد التي يوردها الرويعي؛ من جهة ثالثة؛ إما تأثراً؛ وإما من حيث نصّيتها، ضمن مساحة مدهشة من نصوص التصوّف التي يكتنز بها التراث العربي والإسلامي، ومن جهة رابعة، ما هو قارٌّ وثابت من نصوص الشعر العربي القديم، وضمن الكبار ممن صنعوه، إذا اعتبرنا الانشداد إلى الشروط الصارمة في بنائه، يضعه في حدود الصنْعة، بمقياس القفزات والتغيرات التي طرأت على الشعر العربي في السبعين عاماً الماضية.

ما يشبه التنويعات تلك على «النظر» و «البصر»، والانتقالات على المستويات التي حوتها النصوص، تعطي لـ «أنظر ولا أحد» جماليته واختلافه من حيث اللغة التي كُتبت بها، ومستويات انغلاقها ووضوحها، من دون أن يعني ذلك بالضرورة، مباشرة بالمفهوم الذي يفسد النص في استمراره وغلَبته؛ وإن بدا النص الذي تم الاشتغال عليه أقل حضوراً في تلك المزاوجة إلا أن ذلك لم يَحُلْ دون الوقوف على تلك الجمالية؛ على الأقل في كثير منها إن لم يكن كلها.

«وما بين النظر والبصر مسافة طويلة...

تُرى من سيستحق أن تنظر إليه ومن تُبصره،

كيف سيكون حديث اللغة فيما أنت خالدٌ حد

الأحلام في جذور المفردات:

(قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم...)، (ينظرون إليك نظر المغشيّ عليه من الموت...)».

علينا هنا أن نقف بعيداً عن نصوص الكتاب على ملمح آخر للمفردتين وغيرهما أو وظيفة كل منهما، وضمن فقه اللغة الطبية العربية، في إبراز الجانب الوظيفي، ولا قفزة تحدث هنا بذلك التناول، وكأنها بعيدة عن مسار ومناخ المجموعة، وتناولاتها ضمن حدود لم تكُ معنيّة بها ساعة الصوغ والتشكُّل؛ بمعنى خريطة يتبعها النص ليصل. كل نص يهتدي بخريطة لن يصل!

باب فقه اللغة الطبية العربية

يرد في موسوعة الملك عبدالله بن عبدالعزيز العربية للمحتوى الصحي، في باب فقه اللغة الطبية العربية «البَصَرُ (sight) اسمٌ للرُّؤية؛ وربَّما يَجْري البصرُ على العين الصَّحيحة مَجازاً، ولا يَجْري على العَين العَمْياء، فيدلُّ هذا على أنَّه اسمٌ للرُّؤية؛ ويُسمَّى العِلمُ بالشيء إذا كان جلياً بَصَراً، يُقال لك فيه بصرٌ يُراد أنَّك تعلمه كما يَراه غيرُك. والعينُ هي آلةُ البَصَر».

أما في تناول الموسوعة للنظر فيَرِدُ الآتي: «النَّظر (seeing looking, considering, believing) طلبُ معرفة الشَّيء من جهة غيره ومن جهته أو طَلب الهُدَى، أو طلبُ إدراك الشَّيء من جهة البصر أو الفكر، ويَحْتاج في إدراك المعنى إلى الأمرين جميعاً، كالتأمُّل والفِكر؛ وأصلُ النَّظر المقابلة، فالنظرُ بالبصر الإقبال نحو، والنظرُ بالقلب الإقبال بالفِكْر نحو المفكَّر فيه، ويكون النَّظر باللمس ليُدرى اللِّين من الخشونة، والنظرُ إلى الإنسان بالرحمة هو الإقبال عليه بالرَّحمَة، والنَّظر من الملك لرعيَّته هو إقباله نحوهم بحسن السياسة. وإذا قُرِن النَّظر بالقلب فهو الفِكرُ في أحوال ما يُنظَر فيه، وإذا قُرِنَ بالبصر كان المراد به تَقْليب الحدقة نحو ما يُلتَمس رؤيته مع سلامة الحاسَّة».

وفي مستوى ثالث، لم يكُ حاضراً بالمستوى الذي جاء فيه البصر والنظر في المجموعة، وهي «الرُّؤية (vision) (visus)، هي تَحقُّق البَصَر أو الإِبْصار إلى ما هو مَوجود. والرُّؤيةُ في اللغة على ثلاثة أَوجُه: أحدهما العِلم، وهو قَولُه تعالى: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً)، أي نَعلمُه يومَ القيامة، وذلك أنَّ كلَّ آتٍ قَريبُ. والآخر بمعنى الظنِّ، وهو قَولُه تعالى: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً) أي يَظنُّونه، ولا يكون ذلك بمعنى العِلْم لأنَّهم لا يجوز أن يكونوا عالِمين بأنَّها بَعيدَة، وهي قريبةٌ في عِلْم الله، واستعمالُ الرُّؤية في هذين الوجهين مَجازٌ. ومن هنا جاءت في مُصْطَلحات النَّحويين: رأى القلبيَّة ورأى البَصَريَّة؛ فرأى البَصَريَّة هي ما تَراه بالعَين، ورأى القلبيَّة هي ما تَشْعر به في داخلِك. والثَّالِث رُؤيةُ العين وهي حَقيقَة.

وخُلاصَة القَوْل ما يأتي: النَّظر هو تَمحيص الشَّيء، يقولون سأنظر في الأمر أي سأفكِّر فيه؛ فإذا كان النَّظرُ بالعين فهو بصرٌ، أي استِعمال العين في رؤية الأشياء؛ وإذا تمَّ فعلُ البصر، فهي رؤية. وقد وردَ عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في رياض الصَّالحين على لسان الصَّحابِي حَنْظَلة (... كان يُحَدِّثنا عن الجنَّة والنَّار كأنَّنا نراهما رأيَ العين...)».

وردت الرؤية في مواضع كثيرة وتوظيفات في النص، وكذلك اللمح واشتقاقاتها مثل: تلمحين «ستلمحين الوجوه في عيني لكنك لن تجدي أحداً سواك» و «رأيتك تقتنصين الأمل من بين الطرقات، تجففين زرقته وتنحتين من يأس كل ذلك العمر».

في اختلاس النظر (اللمح)

في اللغة، يَلْمَحُ لَمْحاً: اخْتَلَسَ النَّظَرَ كأَلْمحَ أَي أَبصرَ بنَظرٍ خَفيفِ. وقال بعضهم: لَمَحَ نَظَرَ وأَلْمَحَه هو والأَوّل أَصحُّ. وفي النِّهاية: اللَّمْحُ. سُرْعةُ إِبصارِ الشَّيْءِ. ولا نظر في ذلك.

في «يقول الناظر»، التي أخذت ما يشبه الهامش في النصوص، اشتغال على مستوى يقترب بها من الاسترسال في تلك المساحة البيضاء... النقاء... التصوّف بكلام كثير. إعادة إنتاج مثل ذلك النص بعيداً عما يدل عليها من حيث مباشرتها، وتناولها وطرقها لمفردات عُرفت بها نصوص التصوف. لا يريد الرويعي للنص أن يكون كذلك. هي ليست تجربة مشغولة بالتصوف على امتداد الكتابة التي بين أيدينا، وفي الوقت نفسه هي ليست بمنأى عنها في صورة أو أخرى. تلك المزاوجة سنقف عليها في الانتقالات التي تتخذ صفة الشاهد، لا صانع الفعل في النص نفسه.

«يقول الناظر: أتفرّس مثل ذئب وأعدو مثل ريح، سيقان في مهب الفوضى وأحداق تموج في رهبة الحضور، يتمايلون أغصاناً ويجزعون مثل ليل الحديد كي لا يطالهم النسيان، في الفتات والصدأ، في النعومة الموحشة... تستقر الوجوه في الحدقة... عليّ الآن أن أرمّم جزع الغربان من غفلة الذهب... ها أنا أنظر».

تحطيم الهامش

ما يبدو أنها نصوص على الهامش، مثل، «يقول الناظر»، وغيرها، هي ليست كذلك، هي في متاخمة مع المتن، بل هي كذلك. بعبارة أخرى، لا هامش ولا متن في النص، بحسب توزيعه ومساحاته، هو كلٌّ متحد، إذا صح لنا أن نستعير ذلك المفهوم في المقاربة هذه. تظل المستويات متفاوتة من دون شك، في نصوص تبدو متماسكة ومكتنزة، وأخرى لم تخلُ من إرباك، أو لم تأتِ بالوهج الذي يمكن الوقوف عليه في نصوص أخرى. على سبيل المثال «تذكّرتك

كأني أسهو بك الآن

كأني أغفو بك الآن

كأن نسياناً لم يكفّ عن البكاء

لأنه تذكركِ

وتذكرتكِ فيما أنا أنظر».

سنقف أيضاً على الحالة المضادة للرؤية في ثنايا النص (العمى) و «الليل»، وتَرِدُ في مقطع جميل أكتنز بالغرابة، والقبض على قيم ومعانٍ جميلة. عفوياً كان؛ لذا كان في الصميم من النص، وأحد توهجاته، ومساحات التجلّي فيه:

«انظريني...

فليس ثمة عمْي أكبر من ذلك...

انظريني... كل العيون سيفقؤها الليل

ما دامت في نهارها... كل النهارات زيف... فانظريني... كل الرماح العتيقة لي. وهذا الجيش الممتد ما بين شرقي وغربك لي... انظريني... فارساً له من الحرمات ما لا تقل وتكثر...».

كما نقف على ما يشبه التميمة في خاتمات نصوص «يقول الناظر»، كانت في حال تلازم مع فضاءات متباينة لكل مقطع منها. لكل منها صيغه ومفرداته وأساليبه؛ صعوداً أو هبوطاً أو مراوحة بين هذا وذاك؛ لكن لكل واحد منها فضاؤه الذي بدأ منه، وكأنه لا يريد له أن ينتهي.

«يقول الناظر: قادة من هشيم

يسيّجون المدن بمراثي الملح

ويطلقون العنان لأوهامهم الذهبية

فلا تجزع

أرخِ أهدابك المحتملة وانظر».

وفي تلقّي السؤال، محاولة لاستدراج ما يريد الرويعي أن يكون عليه النص من حيث حمولاته، ومن حيث قدرته على نسيان ما أنجز من نصوص قبلها؛ سواء تلك التي أريد لها أن تكون في ما يشبه الهامش، أو تلك التي أريد أن تكون في ما يشبه المتْن. أن ينسى أحياناً، ذلك يعني أن تبدأ نظراً آخر جديداً.

سألتُني

فقلتُ لي: خذني عني...

عراة الظل يسبقون ضوئي

ولا دليل لي

خيول منكسة الأعناق

وأعنّتي تهوي

تهوي

تهوي

حتى هويت وأنا أنظر».

في النهايات الواحدة

سنقف على النهايات الواحدة... «وأنا أنظر»، فيما يشبه الهامش الذي اتخذته نصوص «يقول الناظر»، وهو في حقيقته نص واحد. كأنها الشرفات أو الكوّات التي يطل من خلالها على موضوع النظر وحركته وتحولاته؛ وأحياناً سكونه. كأن اختيار ما يشبه الهامش تحايلاً من الرويعي لتحطيم ونسف التمايز بينهما. كأن ما يبدو هامشاً هو المتْن؛ من دون أن يمتد الأثر العكسي على المتْن ليتحول هامشاً.

ثمة وحدة تتجاوز الموضوعية التي نعرف؛ يمكن تلمّسها في أكثر من مستوى؛ بدءاً باللغة، والصورة، والمجازات، والاستعارات، وحتى الإحالات التي بدت في جوانب من النص.

التجربة محاولة اقتراب من نص صوفي. نص غامر، ومن المتعة قراءته.

يذكر أن خالد الرويعي، مؤلف بحريني من مواليد العام 1974. صدر له: «درس النور»، العام 2004، «الإنترنت بوصفها نصاً»، العام 2006، «هدوء ليس إلا»، 2008، «التكنولوجيا في العرض المسرحي»، (تأليف مشترك)، الأردن، العام 2007، «أحجار الماء (تأليف مشترك) مع الشاعر علي الشرقاوي (2010)، «غازي القصيبي... في ذكراك يُورق الغيم فيسرحُ عند بابك»، إعداد (2010، و «محمد البنكي... وردة الأمل» (إعداد) (2010).

العدد 4487 - الجمعة 19 ديسمبر 2014م الموافق 26 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً