تتحرك منطقتنا بين هدير المدافع وانتشار التطرف في ظل أوضاع تتميز بانسداد الأفق السياسي وارتفاع الضغوط المعيشية التي تجثم في جلها على صدر الجيل العربي الصاعد. ويتضح في خضم المواجهات الراهنة والقادمة أننا مقبلون على مزيدٍ من العنف الرسمي من جهة، ومزيدٍ من التطرف الجنوني والعنف الشعبي من جهة أخرى، فالكبت السياسي العربي نتاج طبيعي لروح أمنية مسيطرة بإحكام على النظام السياسي العربي. بل تؤدي هذه الروح الأمنية إلى الحد من قدرة الناس على الحصول على حقوقها بوسائل سلمية عند مواجهة الظلم والخطأ.
هذه الحالة العربية أدّت في صفوف المجتمع وبعض أفراده إلى حالة انسحابٍ من العلنية السياسية والاجتماعية باتجاه السرية والتكتم، ما يدفع بالوضع برمته نحو المفاجآت، بل يتوقع مزيد من المفاجآت في الزمن القادم بسبب ضعف مبادئ الحريات والحيادية الرسمية.
في بلاد مثل الصين، لم يؤدّ الكبت السياسي إلى الظاهرة الانتحارية العنيفة التي تميّز إقليمنا، وذلك لأن الكبت السياسي لم يتداخل مع تسييس ديني مرتبط ببعض أبعاد الموروث وبطرق تفسيره. أما في البلاد العربية، وإن بدرجات متفاوتة، فقد تداخل الكبت السياسي مع الديني، ما أدى إلى دينامية أكثر احتقاناً. وهذا النمط ليس مسئولية الحركات الإسلامية بقدر ما هو مسئولية الأنظمة السياسية والمشرعين الرسميين الذين أقروا قوانين وإجراءات أقرب إلى المدرسة النصية في التراث. كما تعاملت الأنظمة مع النصوص وتفسيراتها، وبغض النظر عن مدى ملاءمتها الزمن، بصفتها أداةً من أدوات السيطرة السياسية، وبالتالي كسرت روح التساؤل والتمرد بدءاً من المدرسة وانتهاء بمؤسسات الدولة.
لقد أدّت التفسيرات الضيّقة إلى حالةٍ من الهوس في منع مئات الكتب، بحجة التعارض مع الدين والنظام السياسي والعادات والتقاليد، كما منعت وصودرت مئات النشاطات الثقافية من مسرح وفن وإبداع ونشاطات محببة للناس بحجج متناقضة حول الموروث. وقد ارتبط كل هذا بحالة هوسٍ في فصل الرجال عن النساء في المدارس والجامعات، وفي الأنشطة والنوادي، وفي القاعات والساحات.
هذا النمط من الفصل دفع إلى مصادرة الحريات بمداخل أخرى أكثر فتكاً. بل أصبح الفصل بين الجنسين مدخلاً للاعتداء على المرأة، كما يلعب دوره في ظاهرة التحرش الجنسي العلني والضمني والتي تصل إلى حالة خيالية في المنطقة العربية. إن التدخل المفتعل الذي تمارسه الدولة في حرية الأفراد والناس، وحول وجود المرأة في الحياة العامة، أدّى إلى وضع غير طبيعي. وقد أضاف هذا الوضع كبتاً يضاف إلى أنواع الكبت الأخرى، ويدفع قطاعاً من المجتمع إلى قساوة مضافة في التعامل مع المرأة، كما في التعامل مع الاختلاف.
وما هو الاستبداد إن لم يكن إعطاء الدولة حقاً مفتوحاً من دون مساءلة ولا مراقبة للتدخل في خصوصية المواطن وفي حله وترحاله، وصيامه وإفطاره، وصلاته وعدم صلاته، وفي اختلاطه وعدم اختلاطه، وفي رأيه وقوله وفنه وأدبه، ثم محاسبته إن انتخب أو لم ينتخب للتأكد من ولائه للانتخابات الصورية الشائعة في بلاد كثيرة. كل هذا يدفع قطاعاً كبيراً من الناس إلى التعوّد على تدخل الدولة، بل وتقمص بعض من شخصيتها وسلوكها ونصيتها في التعامل مع الاختلاف، بل وفي التعامل مع الدولة نفسها.
مع الوقت، حوّلت الدولة العربية تدخلها الثقافي وآلية عقوباتها إلى أداةٍ لمصادرة حقوق النشطاء السياسيين، ولكن أيضاً لمصادرة المخالفين واعتقالهم بتهم مختلفة، كإثارة الفتنة والانحراف والإلحاد والتطرف والانتماء إلى جماعات دينية غير مرخصة رسمياً، وتهديد الأمن القومي، وتشويه سمعة الوطن، والتشكيك بالاقتصاد الوطني، وعشرات التهم التي لم تعد مقبولةً في معظم دول العالم. بهذا تتخلى الدولة عن واجبها الأهم: نشر العدالة وتمثيل حقوق الناس وحماية الإبداع والحريات وصون المستقبل والتنمية وصون الاستقلال والأرض ومنع التمييز الذي يؤدّي إلى صون الأمن.
في حضارتنا الراهنة أصبح الموت محبباً لقطاعٍ يزداد حجماً من الناس، وذلك لأنه يخلق عالماً حراً مليئاً بالحريات الفردية وخالياً من كل أنواع الممنوعات والكبت، بل إنه المكان الوحيد الذي يسمح لفقراء العرب ومهمّشيهم وضعفائهم بأن يعيشوا مثل أغنيائهم المتنقلين في طائرات خاصة بين الوطن المغلوب على أمره ومناطق العالم الجميلة، ففي خيال قطاع من العرب يؤدي الموت بوسائل انتحارية إلى نهاية دربٍ من الآلام والاحتقان والذهاب إلى عالم بلا موانع ونواهٍ وقوانين وأوامر.
لا يشترط أن يحمل المهمّش والرافض والثائر والمعارض رسالة واضحة، فهو يتململ ويسعى للثورة السلمية، ثم ينتقل بعد فشلها إلى الثورة العنيفة، ثم ينتقل بعد ذلك إلى الإرهاب والتطرف، ثم يعود إلى الثورة. إنه يستعين بالحد المتوافر من تجاربه ومعارفه، كما يعتقد أن طريقه سيضمن له حقوقه ويخلّصه من أزمته. في غياب الثقافة السلمية العربية، ثقافة النموذج الحر في صفوف الأنظمة كما في صفوف من يعارضها، سيصبح الوسط العربي ضحية صراع أكثر فتكاً. المشروع الثقافي الحر يجب أن يكون محور تفكير من يخشى على المستقبل من المستقبل.
العرب بين خيارين لا ثالث لهما، إما بناء مجتمعات مفتوحة تتحاور في العلن وتتحدّث وتتنقد وتمارس السياسة وتخضع أنظمتها لمبادئ فصل السلطات وللمساءلة والمحاسبة والنقد والانتخابات الدورية، وإما بناء مجتمعات مغلقة يخشى فيها كل طرف من الآخر بينما يسودها الخوف والقمع.
نجاح المجتمع المفتوح، كما هو حال الكثير من المجتمعات الغربية، ارتبط أساساً بالقدرة على المأسسة والتصحيح الذاتي، كما ضمان العلنية والشفافية، فعلنية الأفكار وعلنية المعارضة أفضل من سريتها، فلا إيمان بلا حوار علني، ولا دولة بلا حرية التطوير وعلنية النقد والمساءلة، ولا عدالة بلا علنية التقاضي.
السرية في المجتمعات مرض عضال يتحوّل إلى سرطان يدمر كل مناعة. سيكتشف القادة الذين دفعوا الوضع العربي إلى ما هو عليه، أنهم قادوا الإقليم إلى الحالة الانتحارية لأنهم سمحوا، في ظل قناعتهم بحماية الأخلاق والشباب من الانحراف والسياسة والمشاركة، بتراكم كمٍّ كبيرٍ من الكبت السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي، الذي أدّى إلى ظاهرة الانتحاريين العرب.
ستبقى قضية الحرية من أهم القضايا العربية، فمن دون إطلاق حرية قول الحقيقة للدولة القوية والحكومة المدججة بالسلاح، والذي يجب أن يرافقه إطلاق الحريات الفكرية والكتابية وحرية النقد والتنظيم والتظاهر السلمي، ستعيد الأزمة إنتاج نفسها بصورٍ أكثر عنفاً وضجيجاً. لكن الحريات من دون مشروع إصلاح مدعاة للثورة، لهذا فالحريات يجب أن تقترن بمشروع علني للإصلاح بهدف التعامل مع الأزمة الاجتماعية والإنسانية السياسية بل والطبقية والاقتصادية (الوجه الآخر للاحتكار السياسي والاقتصادي) التي تدمّر عالمنا.
أطلقوا الحريات، خفّفوا القيود، حاوروا خصومكم، اسمحوا للفرد بتحمل مسئولية قراره، خفّفوا من تدخل الدولة بحريات الناس، احرصوا على العدالة وإيقاف الظلم مهما بلغ الضيق والألم. هذه إجراءات تستطيع الأنظمة، على رغم عمق مشكلاتها، أن تقوم بها في ظل التعامل مع قضايا المعيشة والبطالة والإصلاح الهيكلي والعدالة والتداول على السلطة.
التمكين يبدأ مع الحريات واحترام الكرامة الإنسانية والحقوق الأساسية للرجال والنساء في المجتمع، وإلا سننتهي كعربٍ في قاع المجهول. لقد تبيّن أن ثمن التحول والتغير الديمقراطي أكبر من كل التوقعات، بسبب الاستبداد المركب الأبعاد وبسبب صعوبة بناء القطيعة معه. لا بديل، على رغم الصعوبات، عن التحول الديمقراطي، وذلك لتأمين حماية حقيقية للمكونات الاجتماعية، وللتعامل مع جروح فرضها الاستبداد على مدى عقود متتالية.
إقرأ أيضا لـ "شفيق الغبرا"العدد 4486 - الخميس 18 ديسمبر 2014م الموافق 25 صفر 1436هـ
خريف الديمقراطية
الصين بدون حريات حققت اعلى معدلات التنمية الاقتصادية لمواطنيها وغزت منتجاتها كل دول العالم " الحر"، ولم تحقق كل الاحداث " الثورية" في العالم العربي سوى الفوضى والخراب حتى بات حلم الناس هو العودة لليوم السابق على اندلاع تلك المؤامرات . لقد قضت دول عربية بسبب وجبة ديمقراطية مسمومة لان الغرب لا يريد لنا الاستقرار .رفقا بالقراء وكفى تغريرا بهم وكفى بالامن نعمة
خريفكم فشل
خريفكم فشل يا دكتور
فك الرمز ..
هذا حال كتاب الأعمدة ...
تتميز المقالات بالغموض والنظريات الفضفاضة والكلام بالعموميات .
يعتقد كاتب المقال بأنه شخص الحالة ووصل إلى لب الموضوع .
أما النتيجة التي يحصل عليها قارئ المقال فهي سلبية .
عزيزي كاتب المقال ...
إذا كنت خائف من الاعتقال ، فلماذا تنشر مقال في ظل قانون صحافة لا يؤمن بحرية الرأي مهما كان موطنة