لا توجد كذبات بيضاء وأخرى سوداء، فالكذب هو الكذب مهما اختلفت رؤيتنا له، لكن هذه الكذبة البيضاء الجيدة كانت مختلفة، مختلفة لأنها تمثل عملاًًً سينمائياًًًً أجاد من خلاله المخرج تحويل لحظات الألم والعوز والتعب والقتل والتشرد إلى أمل.
فيلم الكذبة الجيدة أو Lie The Good الذي يحكي قصة أطفال سودانيين، اقتبس كاتبه قصته من الأخبار والتقارير والكتب والمقالات التي كُتِبَت حول اللاجئين السودانيين بعد الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في تسعينيات القرن الماضي، وبرع في تصوير المواقف المؤلمة بشكل لا يجعل معه المشاهد يغرق في كم الأسى، فيمر بها ليتعرف عليها فقط لأنه يترقب ما سيحل بهؤلاء الأطفال الذين أطلق عليهم بعد ذلك «الفتية الضائعون».
مشاهد الحرب تمر سريعاً لأنها ليست الهدف من الفيلم، حتى ذلك النهر الذي كان مليئاً بأجساد القتلى من الجنود مر في مشهد سريع، فكان الهدف الأهم بالنسبة لصنّاع الفيلم، هو التركيز على الأمل والتشبث بالحياة الذي جعل أطفالاً صغاراً ينجون بأنفسهم بعد أن قتلت الحرب كل ذويهم، ويعبرون باتجاه كينيا ما يقارب 1100 كيلومتر بعد أن باءت محاولتهم للجوء إلى أثيوبيا بالفشل، عابرين صحارى وسط دمار وجند متربصين، يموت منهم من يموت عطشاً وقنصاً، ويأخذ الجنود منهم أخاهم الأكبر في مشهد يصور معنى الإيثار. فهذا الطفل يضحي بنفسه حين يخرج للجنود من بين الحشائش بعد أن يطلب من أخوته البقاء من غير حركة، ويوهم الجنود بأنه وحيد في تلك البقعة فيأخذونه بعيداً... ربما نحو الموت!
الماضي يشكل ركيزة أساسية في الفيلم، فذاكرته تتحرك بين المشاهد لتعود بين فترة وأخرى إلى وقت السلم في الحقول التي تربى بها الأطفال، فتبين كم البساطة والسعادة التي عاشها هؤلاء في قريتهم، وكيف أنهم لا يعرفون أي معنى أو شكل من أشكال التمدن وكأنهم في عصر مختلف. توضح المشاهد معنى أن تكون على سجيتك، فترفض الكذب مهما كان «جيداً»، كما أوضح الفيلم عندما انتقل الأخوة مع مجموعة من اللاجئين إلى الولايات المتحدة الأميركية، فتصادفهم مسئولة التوظيف وتجد لهم أعمالاً بعد صعوبة كبيرة، لكن أحدهم يرفض عمله ببساطة لأنه ليس مستعداً لأن يرمي الطعام في القمامة، فيما لا يجد بعض الفقراء هذا الطعام، ويقدّم استقالته بعد أن يكتشفه مسئوله وهو يعطي فقيرةً بعضاً من الطعام الذي كان من المفترض أن يرمى.
ولكن وبعد فترة يعتاد هؤلاء الفتية على الوضع الجديد، وربما على الكذب الجيد الذي تفرضه عليهم الحياة، وهو ما انتهى إليه الفيلم، عندما قام الشقيق الأصغر بتزوير جواز سفره ليكون صالحاً لشقيقه الذين ظنوا أنه قتل على يد الجند عندما أخذوه معهم، بعد عدة محاولات لإيجاد «فيزا» له تساعده على الدخول إلى أميركا، يضحي براحته، ويكذب كذبةً جيدةً ليعيش أخاه عيشة أكثر سعادة جربها لفترة من الزمن، فيما يبقى هو في مستشفى مخيم اللاجئين يمارس عمله الذي يحب كطبيب.
الفيلم يحكي المعاناة بقدر ما يحكي الأمل، ويحكي النبيل من الصفات بقدر ما يحكي عكسها، وفيما هو نتاج طبيعي للحروب التي تخلف قصصاً كثيرة من المعاناة، مازال العالم يعيش تلك الحروب ويعيش القتل والدمار بشكل يومي.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4485 - الأربعاء 17 ديسمبر 2014م الموافق 24 صفر 1436هـ