يستحق الأستاذ منصور محمد سرحان لقب «مؤرخ الكتاب والمكتبة البحرينية» بجدارة، فهو أول من كتب في هذا الاختصاص وسلك هذا الدرب وخاض فيه طولاً وعرضاً في أكثر من عمل وكتاب، فهذا الأستاذ الحاصل على الدكتوراة في توثيق الدراسات التاريخية من الأكاديمية العالمية في لندن، يشخص كتابه التوثيقي الرائد «المكتبات في البحرين» كأحد أبرز المصادر المبكرة في هذا الموضوع المُغفل.
غير أن الكتاب والمكتبة البحرينية مدينة في واقع الأمر لأكثر من باحث بحريني استطاع أن يثير النقاش ويبرز أهمية هذا المجال الحيوي من حياة وسيرة مجتمع البحرين، ومن الذين ساهموا بشكل كبير في خدمة الكتاب والمكتبة البحرينية عبر بوابة إحياء التراث العلمي للبحرين، كالدكتور سالم النويدري والذي صدرت النسخة الثانية من موسوعته التاريخية القيمة «أعلام الثقافة الإسلامية في البحرين» عن «مركز أوال للدراسات والتوثيق» مطلع الشهر الجاري، وتم تدشينها في معرض بيروت الدولي للكتاب. والموسوعة تقع في ثلاثة مجلدات دمجت في مجلد ضخم.
وإذا كان البحاثة النويدري قد اهتم بالترجمة لأعلام البحرين معتمداً على مدرسة التراجم التاريخية وفقاً للتسلسل الزمني أو ما يعرف بمنهجية «الطبقات»، فإن الشيخ محمد عيسى آل مكباس قد اختار العناية بتاريخ «المخطوط» في البحرين، وتعقب أماكن وجوده داخل وخارج البحرين، ووضع كتابه الفريد «فوائد الأسفار في وصف مخطوطات علماء البحرين الأبرار» الصادر عام 1997. ولكن ما سلف كان حديثاً عن الأعلام والمخطوطات، فماذا عن المكتبات؟
في النصوص التاريخية القديمة عند البحرينيين، من النادر أن ترد معلومات تفصيلية عن الكتب والمكتبات والاستنساخ إلا بشكل عرضي، وكان ذلك طبيعياً مع قلة الكتب المؤلّفة في البحرين قياسياً بما كان يقع ضمن أولويات الناس في ذلك الزمان، كما أن الكتابة على الورق لم يعرفها العرب سوى في القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري)، إذ لم يظهر أول كتاب أنتج على الورق في بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية ومركز إنتاج الكتاب العربي وتجارته آنذاك سوى العام 890م، ومن المعلوم أن مادة الورق أحدثت ثورة في تاريخ الكتاب عموماً، كونها رخيصة الثمن، ما ساعد على انتشار الكتب، وقد تأثرت البحرين كغيرها من البلدان العربية بهذه الثورة على الرغم من أن ورق البردي استعمله العرب حتى القرن الثالث عشر الميلادي.
ومع ما شهدته البحرين بدءاً من القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري) من حيوية علمية وأدبية استمرت بشكل مضطرد انتعش دور المدارس الدينية وتزايدت أهمية المكتبات وتعززت الصلة العلمية بين البحرين والحواضر العلمية في شبه الجزيرة العربية والعراق وإيران والهند، ولعل أوضح مثال على مقدار عناية العلماء بتشييد المدارس وتأسيس المكتبات هو الدور الذي قام به الشيخ داود بن حسن الجزيري من فقهاء القرن السابع عشر الميلادي (الحادي عشر الهجري) الذي بنى مدرسة في بيته بقرية النبيه صالح (قرية أُكل) ووقف عليها أربعمئة كتاب كان هو وتلامذته يعكفون على استنساخها.
وكان من أكثر الجوانب التي استرعت اهتمام المؤرخ والرحالة الإيراني الميرزا عبدالله الأفندي الأصفهاني (ت 1718م/ 1130هـ) في البحرين حين وفد عليها هو كثرة المصنفات العلمية والكتب التي كانت تزخر بها البلاد في القرن الثامن عشر الميلادي (الثاني عشر الهجري).
وقّف الميرزا الأفندي (الأفندي لفظة تركية معناها الرجل العظيم الشأن) كثيراً عند مكتبة الشيخ سليمان بن عبدالله الماحوزي (ت1709م/ 1121هـ) وهو من فقهاء البحرين وأعلامها الكبار، وكانت تربط الرجلين علاقة صداقة عميقة، وكان بينهما مراسلات. والماحوزي نفسه محرّر المادة المتعلقة بعلماء البحرين في موسوعة الأفندي ذائعة الصيت «رياض العلماء وحياض الفضلاء»، بموجب خطاب مرسل من الأفندي لصديقه المحقق البحراني حمل الأخير على كتابة «فهرست علماء البحرين».
ولم يكتف البحرينيون بتشييد المكتبات العامة والخاصة في الداخل، بل حملوا معهم هذا الهم حتى في المهاجر التي قصدوها واستقروا بها، وهكذا نجد أن مكتبة والد الشيخ يوسف صاحب «الحدائق»، الشيخ أحمد بن إبراهيم آلعصفور (ت 1718م/ 1131هـ) ضمت ميراث آل عصفور العلمي، وقد استقر في مدينة بوشهر (إيران). هذه المكتبة التي حفلت بالكثير من ذخائر وكنوز التراث العربي والإسلامي، وعرفتُ مؤخراً بأنها ألحقت بمكتبة المخطوطات التابع للعتبة الرضوية المقدسة في مدينة مشهد بإيران.
مكتبة آل عصفور هذه كانت قد حوت نحو 800 مخطوطة من أهم ما صنّفه علماء أسرة آل عصفور، ولم يبق منها إلا 529 مخطوطة في حالة سليمة، وهناك أكثر من 250 مخطوطة تهلهلت وتبعثرت أوراقها، بل إن هناك مخطوطات لا يمكن فتحها أو تصفحها، لأن أوراقها تيبست وتلاصقت. وتضم المكتبة إلى جانب المخطوطات كتباً بطباعة حجرية. كما كان لمكتبة السيد محمد طاهر البحراني (ت 1964م) أهمية وشهرة واسعة في مدينة كربلاء بالعراق، فمؤسسها كان من مشاهير العلماء وأئمة الجماعة في كربلاء، وقد اشتملت مكتبته على مصنفات كثيرة في الفقه وسائر العلوم الدينية والأنساب والتراجم، والعديد من نفائس الكتب النادرة.
قبل نحو سنتين، وفي العام 2013 كان قد مرّ مئة عام على تأسيس أول مكتبة عامة في البلاد من قبل الأهالي في العاصمة المنامة، وكانت مكتبة الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة (ت 1933) التي أسسها في منزله بالمحرق في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي أحد عوامل تشجيع أبناء المنامة العاصمة لتأسيس مكتبتهم العامة.
حكاية الكتاب في البحرين حكاية شيقة مشحونة بالتفاصيل، لكنها حكاية لم تُرو بعد، لأن قصة المكتبات البحرينية في المهجر لم تخضع للتدوين.
إقرأ أيضا لـ "وسام السبع"العدد 4483 - الإثنين 15 ديسمبر 2014م الموافق 22 صفر 1436هـ
شكرا لاستاذ يوسف مكي
صديقي واستاذي يوسف مكي.. بالفعل اشارتك دقيقة جدا.. فاتني التنويه بجهد الدكتور ابا حسين فعلا.. فاسهامه في توثيق سيرة المخطوط البحريني مبكر من خلال كتابه (فهرس مخطوطات البحرين) الصادر في مجلدين عام 1983.. شكرا لك مرة اخرى
يوسف مكي
شكرا وسام على مقالك الحفري والذي ينم عن جهد ومثابرة واهتمام بالتراث الكتبي عموما والبحريني خصوصا . فقط انوه بأن الدكتور علي ابوحسين يعتبر من اوائل من طرق هذا المجال ونبه الى التراث الكتبي والمكتبات الخاصة والمهمة في البحرين مثل مكتبة عبد الرسول التاجر ومكتبة العريبي ومكتبة الشيخ سليمان المدني ومكتبة عبد الرحمن القصيبي وعبد اللطيف آل سعد وغيرها كثير تحوي مخطوطات ومطبوعات نفيسة . لذا وجب الاشارة .. مع تحياتي . يوسف مكي