العدد 4480 - الجمعة 12 ديسمبر 2014م الموافق 19 صفر 1436هـ

علاقة فاران بقرية الجنبية والقريَّة

من خلال ما قدمناه في الحلقات السابقة حول قرية فاران المندثرة، يمكننا أن نرجح أن موقع قرية فاران القديم يشمل قرية القريَّة الحالية وجزء من منطقة البديع وتمتد حتى الساحل الغربي لجزيرة البحرين الكبرى، وتشمل جزء من قرية الجنبية الحديثة؛ حيث تنتهي حدودها الجنوبية بمقبرة فاران، وبعدها تبدأ قرية الجنبية القديمة. وقد زعم المبارك أن فاران بمثابة البلدة التي تتكون من أكثر من قرية؛ حيث يرى المبارك أن قرية القُريَّة والجنبية ما هي إلا قرى من بلدة فاران (المبارك 2004، ص34 و45). ونحن لا نرى ذلك، فقرية القُريَّة، لم نعثر لها ذكر قديم والمرجح أنها ما تبقى من قرية فاران التي هجرها أهلها وتقلصت أراضيها. كذلك فإن قرية الجنبية ذكرت متزامنة مع قرية فاران على اعتبار أنها قرية منفصلة.

تشترك قرية فاران القديمة، والتي حلت محلها قرية القُريَّة الحالية، مع جاراتها الأخرى في عدد من القواسم المشتركة، أهمها نموذج الاستيطان؛ فقد أوضحنا في حلقات سابقة أن كل من منطقة سار (موقع سار الأثري)، وفاران تم استيطانها في القرن الثامن الميلادي، بحسب ما عثر عليه من آثار. كذلك، فقد عثر على آثار استيطان في محيط قرية بني جمرة والمرخ والجنبية تعود للقرنين الثامن والتاسع الميلاديين. وقد توسع الاستيطان في هذه المناطق مع بداية الحقبة العيونية في القرن الثاني عشر الميلادي؛ حيث تم تجديد وتوسعة نظام القنوات التحت أرضية، أي الثقب والأفلاج، وتم الاهتمام بالعيون الطبيعية والزراعة، وقد أشرنا إلى ذلك بصورة مفصلة في حلقات سابقة. وبذلك فإن هذه القرى (المرخ بني جمرة والقرية وسار والجنبية) جميعها تشترك في نظام مائي واحد تستفيد منه كمصدر للماء.

من القواسم المشتركة، أيضاً، بين القرى السالفة الذكر، أنها عملت في مهن متشابهة اختصت بها دون سواها، فبالإضافة لصيد الأسماك والزراعة، فقد عمل سكان هذه القرى في النسيج، وبالتحديد تخصصت في نسج العبى ونسج أشرعة السفن. فبحسب تقسيم القرى العاملة في النسيج، يوجد هناك ثلاثة أقسام من القرى: فهناك قرى تخصصت فقط في صناعة أشرع السفن، وقرى تعمل في النسيج بصورة عامة ولم يذكر أنها عملت في حياكة أشرعة السفن وقرى تعمل في نسج العبى ونسج أشرعة السفن. ويلاحظ أن المنطقة المكونة لفاران القديمة وجاراتها هي التي تخصصت في نسج العبى ونسج أشرعة السفن، وهذه القرى هي: بني جمرة والمرخ والقرية والجنبية، لمزيد من التفاصيل راجع كتابنا «مهنة النسيج في بني جمرة».

في هذه الحلقة والحلقات القادمة سوف نتناول بالتفصيل القواسم المشتركة والعلاقات بين القرى السالفة الذكر، وبالخصوص التداخل الجغرافي والحراك السكاني بين تلك المناطق، وكذلك النظام.

قرية الجَنَبية

قرية الجَنَبيّة الحالية تختلف عن الجنبية القديمة؛ فالجنبية الحالية عبارة عن منطقة شاسعة، تمتد من ساحل البحر غرباً وحتى قرية سار شرقاً، ومن الشمال تحدها قرى البديع، وبني جمرة و القُريَّة. ومن الجنوب تحدها قرى الجسرة وبوري. أما الجنبية القديمة فقد كانت أصغر مساحة، وكانت تقع غرب شارع الجنبية الحالي، وتبدأ حدودها من مقبرة فاران حتى حدود قرية الجسرة الحالية. ولا نرجح أنها كانت جزء من فاران بل كانت قرية مستقلة، لكنها كانت على علاقة وثيقة بقرية فاران؛ حيث تزامن أقدم ذكر لقرية فاران مع ذكر قرية الجنبية. فأقدم ذكر لقرية فاران جاء في ديوان أبي البحر الخطي (توفي العام 1618م)، أي في نهاية القرن السادس عشر الميلادي. وقد عاش الخطي مجاوراً لهذه المنطقة، فقد عاش في منطقة سار التل، بالقرب من قرية سار التي كان يسكن فيها صديقه الغنوي، وهو جامع ديوان الخطي (العوامي 2005، ج1، ص143).

وكذلك قرية الجَنَبية ورد ذكرها في ديوان الخطي في قصيدة «الحاظ الجُنيبيات» (العوامي 2005، ج2، ص16)، والجُنيبيّات جمع مؤنث مفردها جُنيبية نسبة إلى الجنبية. ويلاحظ أنه تم النسب إلى تصغير اسم «الجَنبية» أي إلى «جُنيبية» وليس للاسم «جَنَبية»، وهذا من المتعارف عليه عند العامة في الوقت الحاضر، حيث يقال في النسب إلى قرية الجنبية، جُنيبي أو اجْنيبي، وكذلك يقال جَنبي، أي أن النسبة تكون للاسم «الجَنَبية» وكذلك لمصغر الاسم «الجُنيبية».

وقد عمل سكان قرية الجنبية في صيد الأسماك والزراعة كباقي القرى الساحلية الأخرى، لكنهم تميزوا في مهنة النسيج؛ قال التاجر عن هذه القرية بأن «أهلها فلاحون وملاحون ونساجون لأشرعة السفن والعبى» (التاجر 1994م, ص 40).

قرية الجنبية الحديثة

بقيت الجنبية القديمة كما هي ردحاً من الزمن، لكنها، ومنذ القرن التاسع عشر، بدأت في التقلص، وأخذ أهلها يهجرها واحداً تلو الآخر. وآخر من بقى في الجنبية القديمة هي عائلة عبدالله بن أحمد الجنبي. يذكر أن للحاج أحمد الجنبي أخ هو ملا محمد الجنبي، وهذا الأخير هاجر إلى القطيف، في شرق الجزيرة العربية، وبالتحديد في قرية حلة محيش، وذلك في بداية القرن العشرين. وبقي عبدالله الجنبي يعيش في الجنبية مع أبناءه. وبقيت الجنبية القديمة تتكون من منازل عبدالله الجنبي وبالقرب منه مأتم الجنبية القديم. وقد هُجرت هذه البيوت في منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، ولم تبقَ إلا أطلال هذه البيوت في مزرعة عبدالله الجنبي الحالية، وبالقرب من هذه المزرعة تقع مقبرة الجنبية القديمة.

كانت محصلة سلسلة الهجرات المتتالية أن هجر جميع السكان قرية الجنبية القديمة؛ فمنهم من هاجر إلى خارج البحرين ومنهم من هاجر للقرى المجاورة. فقد هاجر عدد منهم إلى شرق الجزيرة العربية، وبالتحديد القطيف، ومنهم من هاجر إلى البصرة والحلة بالعراق (سيف 2003، ص185). أما على مستوى الهجرة الداخلية فقد اتجه قسم منهم إلى منطقة بر سار، حيث أقيم فيها إسكان حكومي، وقد أضيفت هذه المنطقة لاحقاً إلى موقع الجنبية القديمة، وبذلك تكونت الجنبية الحديثة. يذكر أن قسم آخر من سكان الجنبية القديمة نزح إلى قرى أخرى وبالخصوص قرية القرية وبني جمرة.

وهكذا، نلاحظ وجود تداخل بين المنطقة التي كانت تكوّن فاران القديمة والقرى الحالية (الجنبية والقرية وسار وبني جمرة)؛ فهناك تداخل جغرافي وهناك حراك سكاني وامتزاج بين أفراد تلك المناطق. وبالإضافة لهذا التداخل فإن هناك نظام مائي موحد بين هذه المناطق، يتكون من قنوات تحت أرضية وعيون طبيعية وثقب، وسوف نناقش هذا النظام بصورة مفصلة في الحلقة القادمة.

العدد 4480 - الجمعة 12 ديسمبر 2014م الموافق 19 صفر 1436هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً