تتعدد الأسقام، فتتعدد معها العلاجات. إنها طبيعة العلاقات الطردية. فكلما زاد أحد المتغيِّرين بمقدار معين يزيد في قباله المتغيِّر الآخر بزيادة تتناسب مع زيادة الأول. هذا الأمر، يسري على أشياء كثيرة، ومن ضمنها أمراض النفس التي هي أشد من أمراض الجسد.
وبتأكيد لا لِبْسَ فيه فإن أمراض النفس، لا تعني فقط الجنون، والأخير لا يعني أن يُظهِر المرء كلاماً فاسداً، ويتَّشِح بالسراويل البالية المُتَّسِخة كي يُقال عنه مجنون. فمريض النفس أبعد من ذلك بكثير، ومنازله على غير مستوى كتف واحد. فمثلما للأمراض العضوية دَرَجَات، تبدأ من خدشٍ في الجلد، ولا تنتهي بالأمراض السرطانية، فإن الأمراض النفسية هي كذلك.
لكن الأهم من ذلك هو معرفة أن فضاء تلك الأمراض هو مختلفٌ في بعضه عن البعض الآخر. بمعنى، أن ضغوط الوَحدَة والقضايا الاجتماعية تُنتِج أمراضاً نفسية. وضغوط بعض الأعمال العقلية والعضلية تُنتِج أمراضاً نفسية. وكذلك بالنسبة للعديد من الأمراض العضوية، التي تُفضِي آلياً لأن يُصاب المرء بأمراض نفسية. أمام هذا، يمكننا القول «استنتاجاً» أن هناك أفْضِيَة أخرى غير تلك الأفْضِية يُمكن أن تُنتِج تلك الأمراض.
هذا الفضاء هو فضاء السلطة والهيمنة. فمزيد من القوة والثروة والنفوذ لدى الفرد، يجعله يهيم في نفسه، ضمن تخيلات لا حصر لها فيما خص القدرة على فعل الشيء مهما كَبُر حجمه ومداه، حتى يظن المرء أنه ليس مجرد فرد، بقدر ما هو سلطة عظيمة ممتدة، يُمكنها أن تفعل كل شيء تريده وفي الوقت الذي تشاء.
داء العظمة هذا، يُشكل مهلكةً لصاحبه دون أن يدري، حين يدفعه إلى الصِّدام مع ناسه أو رعيته، فضلاً عن مراكز القوى في نظامه، والتي عادةً ما يعتبرها منافِسة له.
لكن ورغم أن مسألة «داء العَظَمَة» هي الأكثر بروزاً على مَنْ هم في السلطة، إلاَّ أنها لا تقتصر عليها وحدها أبداً، فهناك مَنْ هو مُبتَلى بداء العَظَمَة من أهل العلم والأدب والفن والقلم واللسان أيضاً. فهؤلاء، وحين تتكوَّن لديهم حظوة اجتماعية، أو سطوة على حيِّز أكثر اتساعاً بفضل مَلَكَاتِهِم ينزلقون في شكلٍ من أشكال ذلك الدَّاء، حيث يعتقدون بمثل ما يعتقد صاحب السلطة، من قوة مختلفة وتأثير مختلف عن غيرهم.
والحقيقة هي أنهم ومَنْ سبقوهم، بل وكل مَنْ يستشعرون بأنهم أصحاب قوة وقادرون على فِعلٍ فوقي، وأن الآخرين هم أدنى منهم منزلةً سواء في القوة أو العلم، هم غارقون في وَهْم الأبدية.
فالفناء هو الحقيقة التي ينساها أولئك النفر، بفعل الاستغراق في وَهْم الأبدية ذاك، على رغم أن التاريخ هو كساقية الماء للذاكرة، سَرَدَ لنا أمثالاً لا تُحصى كي نتعِظ. جميعنا سَمِعَ بالمارشال لوي دي بورمون الذي قادَ احتلال الجزائر ودمَّر البليدة وأهَلَكَ الحرث والنسل، لكنه اليوم يرقد تحت التراب!
الملكة نفرتيتي زوجة الملك أمنحوتب الرابع وإحدى أعظم نساء مصر الفرعونية وأقواهم، هي اليوم مجرد تمثال يُنقل من هنا إلى هناك.
الملكة ماري ستيورات كانت تتسيّد على أحد أعظم العروش، لكنها اليوم تحت التراب. الإمبراطور فرانسيس الأول إمبراطور الرومان هو اليوم تحت التراب. وكذلك الحال بالنسبة لغوستاف الثاني ملك السويد، وجزَّار معتقل بلاسوف النازي آمون غوث، وجيمس الأول ملك اسكتلندا، ودوقة بارما ماري لويز، جميعهم اليوم تحت التراب، وعظامهم رميم، والقائمة لا تنتهي ومعها عِبَرها البليغة.
وبعد جبابرة الحكم والسلطان، ذهب جهابذة الفن: جان لورينزو برنيني وألفرد دي موسيه وإدفارت مونك وكولومان سوكول. ورحل عمالقة الأدب: هوراس وبيورنستيرن وجان سيبيليوس وسوساكي ناتسومي وجون ميلتون. ومات كبار العلماء والمكتشفين والأطباء: يان إينخنهاوسز وغوستاف دالين وفريتز هابر وروبرت كوخ وغيرهم.
رحل كل أولئك، ولم يبقَ من عالمهم سوى الذكرى والأطلال. ليس هناك أكثر من ذلك. الحكام، لم تعصمهم سلطتهم وثرواتهم، وكذلك أهل العلم والقلم واللسان من المتعاظمين، لم تصنع لهم علومهم ولا أقلامهم ولا ألسنتهم ولا اختراعاتهم حياةً أبديةً فيزيائية. فالأمر لا يتعدى سوى الذكرى، إن كانت حسنةً أو سيئة.
للأسف إن مَنْ يشعرون بداء العَظَمَة يعتقدون أنهم أصحاء، في حين أن ما هم فيه من مرض نفسي له علاقة وثيقة بالعوامل الاجتماعية وبالبيئة المحيطة. وما دمنا نعيش في مجتمع متعدد ومتدافع، وبيئة متداخلة، ونعاني من أمراض عضوية مختلفة، فإن إصابة الفرد بعارض نفسي، يصبح أمراً قائماً. وقبل فترةٍ نُشِرَ خبر يفيد بأن نصف مليار شخص في العالم يعانون من اضطرابات نفسية.
إن مفهوم السلطة والهيمنة، سواء في الحكم أو العلم أو القلم أو اللسان، عادةً ما يخلق صورةً مُركَّبةً لدى مَنْ هو متسلط أو مهيمن، حيث يعتقد أنه محاطٌ بمجموعة من الحاقدين، ويبدأ بالشك فيهم، كونه أعلى كعباً منهم، الأمر الذي يدفعه لأن يمارس أدواراً عدوانية، باعتبارهم (توهماً منه) أعداء له، أو مزاحمين لحظوته فتجب محاربتهم.
هذه حالات نفسية يجب أن تُعالج. لأنها بحق أشد من تلك التي يعاني منها عوام المجتمع، حيث أن أولئك يمارسون سلطتهم على الناس والعلوم وتأثيراتها بنفوس مريضة، وهو ما يجعل الأمر أكثر خطراً.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4478 - الأربعاء 10 ديسمبر 2014م الموافق 17 صفر 1436هـ
داء العظمه القاتل
لو ان الكاتب ساق مثال حي لداء العظمه لكان المقال اكثر فهما وتبسيطا فمن اكثر الشخصيات التي تعاني من هذا المرض هي الشخصية النساءيه التي تم ك....بعد استفحال المرض لديها و لا تزال توجه الشكوك لمن حولها وتمارس عدوانيتها لمن تتصور انهم أعداء لها كما جاء في وصف المرض احسنت أستاذي الفاضل
احسنت
" كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام"
مقال في الصميم
أرى ان الكاتب وفق في اختيار المقال، بوركت الأقلام الحرة